يجوز إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، ومست الحاجة إليه، واقتضته المصلحة في بعض الأحوال في تأديب النساء والصبيان ومن يجري مجراهم، وفي الحذر عن الظلمة والأشرار في قتال الأعداء. فمن اضطر إلى الكذب في شئ من ذلك فهو جائز له، لأن نطقه فيه إنما هو على مقتضى الحق والدين، فهو في الحقيقة صادق، وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه، لصدق نيته وصحة قصده وإرادته الخير والصلاح، فمثل هذا النطق لا يكون خارجا عن حقيقة الصدق، إذ الصدق ليس مقصودا لذاته، بل للدلالة على الحق، فلا ينظر إلى قالبه وصورته، بل إلى معناه وحقيقته. نعم، ينبغي له في هذه المواضع أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا يصدق اللفظ حينئذ أيضا وإن كان متشاركا مع التصريح في تفهيم الشئ على خلاف ما هو عليه في الواقع. وقد كان رسول الله (ص) إذا توجه إلى سفر وراه بغيره، لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصدونه.
ومما يدل على جواز التعريض مع صحة النية، ما روي في الاحتجاج:
" أنه سئل الصادق (ع) عن قول الله تعالى في قصة إبراهيم (ع):
" قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " (39).
قال: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. قيل: كيف ذلك؟ فقال:
إنما قال إبراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، أي إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا، فما نطقوا وما كذب إبراهيم (ع)، " وسئل عن قوله تعالى:
" أيتها العير إنكم لسارقون " (40).
قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا:
ماذا تفقدون؟ قالوا: تفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك. إنما سرقوا يوسف من أبيه ". " وسئل عن قول إبراهيم:
" فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم " (41).