ولو تصورت زوال النعمة عن محسودك بحسدك، وعدم زوالها عنك بحسد حاسدك، لكنت أجهل الناس وأشدهم غباوة. نعم، ربما صار حسدك منشأ لانتشار فضل المحسود، كما قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة * طويت، أتاح لها لسان حسود فإذا لم تزل نعمته بحسدك، لم يضره في الدنيا، ولا يكون عليه إثم في الآخرة.
وأما إنه ينفعه في الدين، فذلك ظاهر من حيث كونه مظلوما من جهتك (لا) سيما إذا أخرجك الحسد إلى ما لا ينبغي من القول والفعل. كالغيبة، والبهتان، وهتك ستره، وإفشاء سره، والقدح فيه، وذكر مساويه.
فتحتمل بهذه الهدايا التي تهديها إلى بعضا من أوزاره وعصيانه، وتنقل شطرا من حسناتك إلى ديوانه، فيلقاك يوم القيامة مفلسا محروما عن الرحمة كما كنت تلقاه في الدنيا محروما عن النعمة. فأضفت له نعمة إلى نعمة.
ولنفسك نقمة إلى نقمة.
وأما إنه ينفعه في الدنيا، فهو إن أهم أغراض الناس مساءة الأعداء، وسوء حالهم، وكونهم متألمين معذبين. ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد. فقد فعلت بنفسك ما هو غاية مراد حسادك في الدنيا. وإذا تأملت هذا، عرفت أن كل حاسد عدو نفسه، وصديق عدوه. فمن تأمل في ذلك، وتذكر ما يأتي من فوائد النصيحة وحب الخير والنعمة للمسلمين، ولم يكن عدو نفسه، فارق الحسد البتة.
وأما العمل النافع فيه، فهو أن يواظب على آثار النصيحة التي هي ضده، بأن يصمم على أن يكلف نفسه بنقيض ما يقتضيه الحسد من قول وفعل، فإن بعثه الحسد على التكبر عليه، ألزم نفسه التواضع له، وإن بعثه على غيبته والقدح فيه، كلف لسانه المدح والثناء عليه، وإن بعثه على الغش والخرق بالنسبة إليه، كلف نفسه بحسن البشر واللين معه، وإن بعثه على كف الأنعام عنه، ألزم نفسه زيادته. ومهما فعل ذلك عن تكلف وكرره ودوام عليه، انقطعت عنه مادة الحسد على التدريج. على أن المحسود إذا عرف منه ذلك طاب قلبه وأحبه، وإذا ظهر حبه للحاسد زال حسده وأحبه