فهذا القسم من الحسد أشد أنواعه، لترتب معصيته على أصله، وأخرى على ما يصدر من آثاره المذمومة.
(2) أو لا يبعثه على إظهاره بالآثار القولية والفعلية، بل يكف ظاهره عنها، إلا أنه بباطنه يحب زوال النعمة من دون كراهة في نفسه لهذه الحالة.
ولا ريب في كونه مذموما محرما أيضا، لأنه كسابقه بعينه، ولا فرق إلا في أنه لا تصدر منه الآثار الفعلية والقولية الظاهرة، فهو ليس بمظلمة بحسب الاستحلال منها، بل معصية بينه وبين الله، لأن الاستحلال إنما هو من الأفعال الظاهرة الصادرة من الجوارح.
(3) أو لا يبعثه على الآثار الذميمة الظاهرة، ومع ذلك يلزم قلبه كراهة ما يترشح منه طبعا من حب زوال النعمة، حتى أنه يمقت نفسه ويقهرها على هذه الحالة التي رسخت فيها. والظاهر عدم ترتب الإثم عليه، إذ تكون كراهته التي من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع، فقد أدى الواجب عليه. وأصل الميل الطبيعي لا يدخل تحت الاختيار غالبا، إذ تغير الطبع بحيث يستوي عنده المحسن والمسئ، وعدم التفرقة بين ما يصل منهما إليه من النعمة والبلية، ليس شريعة لكل وارد. نعم من تنور قلبه بمعرفة ربه، وأشرقت نفسه بأضواء حبه وأنسه، وصار مستغرقا بحب الله تعالى مثل السكران الواله، واستشعر بالارتباط الخاص الذي بين العلة والمعلول، والاتحاد الذي بين الخالق والمخلوق، وعلم أنه أقوى النسب والروابط، ثم تيقن بأن الموجودات بأسرها من رشحات وجوده، والكائنات برمتها صادرة عن فيضه وجوده، وإن الأعيان الممكنة متساوية في ارتضاع لبان الوجود من ثدي واحدة، والحقائق الكونية غير متفاوتة في شرب ماء الرحمة والجود من مشرع الوحدة الحقيقية - فقد ينتهي أمره إلى ألا تلتفت نفسه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة، وهي عين الرحمة، ويرى الكل عباد الله وأفعاله، ويراهم مسخرين له، فلا ينظر إلى شئ بعين السخط والمساءة، وإن ورد منه ما ورد من السوء والبلية، لأنه لا ينظر إليه من حيث هو حتى يظهر التفاوت بل من حيث انتسابه إليه سبحانه، والكل في الانتساب إليه سواء.