القدر من أعين الناس، ونظر الخلق إليه بعين الازدراء، وإلى المعطي كونه منعما محسنا إليه، أو خوف ألا يعطيه الناس بعد ذلك لعلمهم بما أخذه، فلينتقل عن الإسرار ويأخذها علانية، إذ لو أبقى نفسه على ما استكن فيها من الداء الدفين، وعمل بمقتضاها، صار هالكا - وإن كان طبعه مائلا إلى الإسرار، وأيقن بأن باعث الميل إليه: إبقاء التعفف، وستر المروة، وصيانة الناس عن الحسد، وسوء الظن والغيبة، ولم يكن باعثه شئ من المفاسد المذكورة، فالأولى أن يأخذها سرا. ويعرف ذلك بأن يكون تألمه بانكشاف أخذه للصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض أقرانه وأخوانه المؤمنين، فإنه إن كان طالبا لبقاء السر وإعانة المعطي على الأسرار، وصيانة العلم عن الابتذال، وحفظ الناس عن الحسد والغيبة وسوء الظن، فينبغي أن يكون طالبا لها في صدقة أخيه أيضا، إذ يحصل ما يحذر منه: من هتك الستر، وابتذال العلم، ووقوع الناس في الغيبة والحسد بانكشاف صدقة أخيه أيضا. فإن كان انكشاف صدقته أثقل عليه من انكشاف صدقة غيره، فتقديره الحذر من هذه المعاني تلبيس من النفس ومكر من الشيطان. وإذا كان طبعه مائلا إلى الإظهار، ووجد منه أن باعث هذا الميل هو التطيب لقلب المعطي، والاستحثاث له على مثله، والإظهار للغير بأنه من المبالغين في الشكر، حتى يرغبوا في الإحسان إليه، فليتنبه أن هذا الداء من الداء الدفين الذي يهلكه لو لم يعالجه، فليترك أخذها جهرا والتحدث بها، وينتقل إلى الأخذ خفية. وإن تيقن من نفسه بأن الباعث هو إقامة السنة في الشكر، والتحدث بالنعمة، وإسقاط الجاه والمنزلة، وإظهار العبودية والمسكنة، أو غير ذلك من المقاصد الصحيحة، من دون تطرق شئ من المفاسد المذكورة، فالإظهار أفضل، ويعرف ذلك بأن تميل نفسه إلى الشكر، حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه، وبين يدي جماعة يعلم أنهم يكرهون إظهار العطية، ويرغبون في إخفائها، وعادتهم ألا يعطوها إلا من يخفيها ولا يتحدث بها ولا يشكر عليها. ثم إذا جزم يكون الباعث إقامة السنة في الشكر، فينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي، فينظر أنه إن كان ممن يحب الشكر والنشر فيخفي الأخذ ولا يشكر، لأن قضاء حقه ألا
(١١٥)