من النعاس. فقالت لجواريها: ان امرأة خالد تفاخرني بالعرب وتزهو علي بأبيها وعمها وأخيها فهل يزيدون في أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش؟
وسمعها الأعشى فقال: من هذه فقيل له: هذه جارية خالد، فضحك وقال: ويل للكسعاء، ثم وقف امامها يقول:
وما يدريك ما فرس جرور * وما يدريك ما حمل السلاح وما يدريك ما شيخ كبير * عداه الدهر عن سنن المراح فاقسم لو ركبت الورد يوما * وليلته إلى وضح الصباح ثم اتبع الأبيات ببيت رابع كلمه اقذاع ونكر. فأسرعت الجارية إلى عتاب شاكية باكية وأنشدته الأبيات ووصفت له الرجل فقال: ذلك أعشى همدان، ثم بعث إليه وقال له: ان هذه تزعم انك هجوتها، فقال الأعشى: انها أساءت سمعا وانما قلت:
مررت بنسوة متعطرات * كضوء الصبح أو بيض الأداحي على شقر البغال قصدن قلبي * بحسن الدل والحدق الملاح فقلت من الظباء فقلن سرب * بدا لك من ظباء بني رباح فقالت الجارية: لا والله ما هكذا قال، وأعادت الأبيات فقال للأعشى. والله لولا أنها ولدت مني لوهبتها لك، لكني افتدي جنايتها بمثل ثمنها ودفعه إليه، ثم قال له: أقسمت عليك يا أبا المصبح ان لا تعيد في هذا المعنى شيئا بعد ما فرط منك.
غير أن عتابا لم يسلم من هجاء أبي المصبح، ذلك أنه مناه مرن الأماني وأكثر له من الوعود الحسان إذا ولي ولاية، حتى لقد قال له: إذا أسند إلي عمل أعطيتك خاتمي لتقضي بين الناس، فلما ولي أصبهان رحل إليه الأعشى فنسي وعوده وأهمله وجفاه، فرجع الأعشى إلى الكوفة بعد أن ارسل في هجائه أبياتا سارت كل مسار، منها:
أتذكرنا ومرة إذ غزونا * وأنت على بغيلك في الوشوم ويركب رأسه في كل وحل * ويعثر في الطريق المستقيم وليس عليك الا طليسان * نصيبي والاسحق نيم فقد أصبحت في خز وقز * تبختر ما ترى لك من حميم وتحسب ان تلقاها زمانا * كذبت ورب مكة والحطيم فلما بلغت الأبيات خالدا بعث إليه يسأله عن مرة الذي ادعى انه غزا معهما وعن البغل ذي الوشوم الذي كان خالدا يركبه وأين كان ذلك، ويسأله عن الطيلسان والنيم اللذين وصفهما ومن رآه يلبسهما؟
فضحك الأعشى حتى بدت نواجذه وقال: هذا كلام أردت به وصفه بظاهرة اما تفسيره: فان المرة مرارة ثمرة ما غرس من عندي من القبيح والبغل المركب الذي ارتكبه مني ولا يعثر به في كل وعر وسهل، واما الطيلسان فما ألبسه إياه من العار والذم. وان شاء راجع الجميل مراجعته له. فلما بلغ الحديث خالدا قال: اي والله، اني أراجع معه الجميل، وأرسل إليه من ترضاه ووصله بمال عظيم.
وعاد الأعشى إلى ما كان له من المنزلة عند خالد، ولكنه حضره مرة وهو يفرق العطايا فجعل له أقلها، وفضل عليه آل عطارد فخرج غاضبا وأطلق لسانه في ذمه فحبسه خالد ثم أطلقه بعد قليل، فقال في هجائه:
وما كنت من ألجأته خصاصة * إليك ولا ممن تغر المواعد ولكنها الأطماع وهي مذلة * ذنت وأنت النازح المتباعد أتحسبني في غير شئ وتارة * تلاحظني شزرا وأنفك عاقد فإنك لا كابني فزارة فاعلمن * خلقت ولم يشبههما لك والد وإنك لو ساميت آل عطارد * لبزتك أعناق لهم وسواعد لم تكن حياة الشاعر كما علمت من بعض ما مر بك حياة هدوء واستقرار فإنه كان لا يفتأ ضاربا في الأرض، محاربا نائيا عن أهله ووطنه، وله في هذه الغزوات شعر من أروع ما سجله ديوان الشعر العربي ورددته أفواه الرواة. جهز الحجاج بن يوسف جيشا من رجال الكوفة بينهم أعشي همدان وسيرهم إلى غزو الديلم فطال أمد هذه الحرب وأخذ فيها الأعشى أسيرا فقذف به في السجن مكبلا فبقي فيه حينا وفي ذلك يقول شعرا يأتي.
وضرب البعث على جيش أهل الكوفة إلى مكران، فأخرجه الحجاج معهم وطال بمكران مقامه ومرض، فاجتواها. وقال في ذلك قصيدة من عيون الشعر تأتي.
في الثورة وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج بن يوسف سنة اثنتين وثمانين وحشد معه جمعا من أهل الكوفة فلم يبق من أقرانهم أحد له ذكر ونباهة إلا خرج معه. وقذف الأعشى بنفسه في أتون الثورة فكان فارسها المعلم وشاعرها المغرد وأرسل الشعر مجلجلا بمدح ابن الأشعث وذم بني أمية والتحريض على الحجاج واستثاره عزائم المجاهدين.
وتغلب الحجاج على الثوار سنة ثلاث وثمانين وأسر زعماءها، وكان منهم الأعشى فلما قدم على الحجاج أسيرا قال له: الحمد لله الذي أمكن منك، ألست القائل لابن الأشعث وفرسك يهملج بك أمامه:
لما سمونا للكفور الفتان * حين طغى بالكفر بعد الايمان بالسيد الغطريف عبد الرحمن * سار بجمع كالقطا من قحطان ومن معد قد أتى بن عدنان * أمكن ربي من ثقيف همدان يوما إلى الليل يسلي ما كان * إن ثقيفا منهم الكذابان كذابها الماضي وكذاب ثان ثم ألست القائل:
يا ابن الأشج قريع كندة * لا أبالي فيك عتبا أنت الرئيس ابن الرئيس * وأنت أعلى الناس كعبا نبئت حجاج بن يوسف * خر من زلق فتبا فانهض فديت لعله يجلو * بك الرحمن كربا وابعث عطية في الجنود * يكبهن عليه كبا كلا يا عدو الله بل عبد الرحمن بن الأشعث هو الذي خر من زلق فتب، وحار وانكب، وما لقي ما أحب، ورفع بها صوته واربد وجهه، واهتز منكباه فلم يبق أحد في المجلس إلا ارتعدت فرائصه، فتلعثم الأعشى وقال: بل أنا القائل:
أبى الله أن يتمم نوره * ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا وينزل ذلا بالعراق وأهله * كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا