المذكور في ضرورة صدور الفعل منه لكان تشريع الشرائع إلهيا وعقلائيا لغوا محضا، ومن الواضح أن صدور اللغو من الله تعالى مستحيل، فالنتيجة أن نفس تشريع الشرايع دليل قطعي على أن صدور الفعل من الانسان إنما هو بالسلطنة والاختيار لا بالضرورة والوجوب، وكذلك حكم العقلاء بحسن العدل وقبح الظلم شاهد قطعي على أن الانسان مختار في فعله لا أنه مضطر.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن مبادئ الفعل بيده تعالى حدوثا وبقاء وهو يمدها ويفيض عليها تدريجا، باعتبار أنها ليست شيئا وراء ارتباطها بقدرته تعالى وسلطنته، وفي أي لحظة انقطع هذا الارتباط بانقطاع الإفاضة تنتهي تلك المبادئ وتنعدم وتوقف العبد عن الفعل في نفس اللحظة، وهذه المبادئ هي المقدمة الأولى لفعل الانسان، وأما المقدمة الثانية له المباشرة فهي سلطنة الانسان على الفعل واختياره، فإنه يوجد باختياره وسلطنته طالما تتوفر تلك المبادئ فيه، وبانتفاء كل من المقدمتين ينتفي الفعل هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن نظرية الأمر بين الأمرين نتيجة حتمية لهاتين المقدمتين وهما من القضايا الضرورية الفطرية.
أما المقدمة الأولى فلأنها ترتكز على مبدأ العلية بمعناه الواقعي ومغزى ضرورة حاجة الممكن إلى هذا المبدأ، وقد تقدم أن مبدأ العلية من أوليات ما يدركه البشر فطرة في حياته الاعتيادية كنظام عام للكون، كما أنه تقدم أن مغزى حاجة الممكن إليه كامن في صميم جوهر ذاته وكيانه الوجودي، وهذا يعني أنه ليس له وجود وراء ارتباطه بالعلة ارتباطا ذاتيا وإلا لكان مستقلا، فلا يعقل أن يكون معلولا لعلة، ولا فرق في ذلك بين المعلول لعلة طبيعية والمعلول لسلطنة الفاعل واختياره، فإنه في كلا الموردين ليس له وجود وراء تعلقه وارتباطه