بها على خمسة أقوال:
أحدها: أنه كان من جنس همها، ولولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهم بي، وأنت تريد اختلاف الهمين. واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما هم به من ذلك خوفا من الله تعالى يمحو عنه سئ الهم، ويوجب له علو المنازل، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار، فانطبقت عليهم، فقالوا:
ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلا بمائة دينار، فلما أتيت بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أرعدت وقالت: إن هذا لعمل ما عملته قط، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر. والحديث معروف، وقد ذكرته في " الحدائق " فعلى هذا نقول: إنما همت، فترقت همتها إلى العزيمة، فصارت مصرة على الزنا.
فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد قال عليه السلام " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل " وقال عليه السلام " هلك المصرون " وليس الإصرار إلا عزم القلب، فقد فرق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة ". واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: " قال معاذ الله إنه ربي " وقوله:
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) وكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية، [وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم] *.
فإن قيل: فقد سوى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟