المصنف. إذا عرفت هذا، فإنه اختلفت آراء العلماء رحمهم الله تعالى، في الماء إذا خالطته نجاسة ، ولم تغير أحد أوصافه: فذهب القاسم، ويحيى بن حمزة، وجماعة من الآل، ومالك، والظاهرية وأحمد في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه إلى: أنه طهور، قليلا كان أو كثيرا، عملا بحديث: الماء طهور وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيرت النجاسة أحد أوصافه، للاجماع على ذلك، كما يأتي الكلام عليه قريبا. وذهب الهادوية، والحنفية، والشافعية إلى قسمة الماء إلى قليل تضره النجاسة مطلقا، وكثير لا تضره، إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل والكثير. فذهب الهادوية إلى تحديد القليل بأنه: ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة استعمالها باستعماله، وما عدا ذلك فهو الكثير. وذهب الحنفية إلى تحديد الكثير من الماء:
بما إذا حرك أحد طرفيه آدمي، لم تسر الحركة إلى الطرف الآخر، وهذا رأي الامام، وأما رأي صاحبيه، فعشرة في عشرة، وما عداه فهو القليل. وذهب الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر وذلك نحو خمسمائة رطل، عملا بحديث القلتين، وما عداه فهو القليل. ووجه هذا الاختلاف تعارض الأحاديث التي أسلفناها: فإن حديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم يقضيان: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك حديث الولوغ ، والامر بإراقة ماء ولغ الكلب فيه. وعارضها حديث بول الاعرابي، والامر بصب ذنوب من ماء عليه، فإنه يقتضي أن قليل النجاسة لا ينجس قليل الماء. ومن المعلوم أنه قد طهر ذلك الموضع الذي وقع عليه بول الاعرابي بذلك الذنوب، وكذلك قوله: الماء طهور لا ينجسه شئ فقال الأولون وهم القائلون: لا ينجسه شئ، إلا ما غير أحد أوصافه: يجمع بين الأحاديث بالقول بأنه لا ينجسه شئ، كما دل له هذا اللفظ، ودل عليه حديث بول الاعرابي. وأحاديث الاستيقاظ، والماء الدائم، والولوغ ليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الامر باجتنابها تعبدي، لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها . وقيل: بل النهي في هذه الأحاديث للكراهة فقط، وهي طاهرة مطهرة. وجمع الشافعية بين الأحاديث بأن حديث لا ينجسه شئ محمول على ما بلغ القلتين فما فوقهما وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم محمول على القليل. وعند الهادوية: أن حديث الاستيقاظ محمول على الندب فلا يجب غسلهما له. وقالت الحنفية: المراد بلا ينجسه شئ: الكثير الذي سبق تحديده. وقد أعلوا حديث القلتين بالاضطراب، وكذلك أعله الإمام المهدي في البحر. وبعضهم تأوله، وبقية الأحاديث في القليل، ولكنه ورد عليهم حديث بول الاعرابي، فإنه كما عرفت دل على أنه لا يضر قليل النجاسة قليل الماء، فدفعته الشافعية: بالفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فقالوا: إذا وردت على الماء نجسته، كما في حديث الاستيقاظ، وإذا ورد عليها الماء لا تضره، كما في خبر بول الاعرابي. وفيه بحث حققناه في حواشي شرح العمدة، وحواشي ضوء النهار. وحاصله: أنهم حكموا: أنه إذا وردت النجاسة على الماء القليل نجسته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجس، فجعلوا علة عدم تنجس الماء الورود على النجاسة وليس كذلك بل التحقيق أنه حين يرد الماء على النجاسة يرد عليها