وأما الشهادة: فإن شهدت البينة بالحكم وبإشهاده إياهما على حكمه تعين القبول لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعد غالب وتكليف شهود الأصل التنقل متعذر أو متعسر فلا بد من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء ولا وسيلة إلا رفع الأحكام إلى الحكام، وأتم ذلك احتياطا ما صورناه.
لا يقال: يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل، لأنا نقول: قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل والشهادة الثالثة لا تسمع. ولأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام بطلت الحجج مع تطاول المدد ولأن المنع من ذلك يؤدى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة بأن يرافعه المحكوم عليه إلى الآخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأول اتصلت المنازعة ولأن الغريمين لو تصادقا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم الأول، فكذا لو قامت البينة لأنها تثبت ما لو أقر الغريم به لزم.
لا يقال فتوى الأصحاب أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ولا العمل به، ورواية طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله ع: أن عليا ع كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض لا في حد ولا غيره حتى وليت بنو أمية فأجازوا بالبينات، لأنا نجيب عن الأول بمنع دعوى الاجماع على خلاف موضع النزاع لأن المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاض ليس منعا من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته.
ونحن نقول: فلا عبرة عندنا بالكتاب مختوما كان أو مفتوحا، وإلى جواز ما ذكرنا أومأ الشيخ أبو جعفر رحمه الله في الخلاف. ونجيب عن الرواية بالطعن في سندها فإن طلحة بتري والسكوني عامي ومع تسليمها نقول بموجبها فإنا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو شهد به فكان الكتاب ملغى، إذا عرفت هذا فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوق الله.
ما ينهى إلى الحاكم:
ثم ما ينهى إلى الحاكم أمران: أحدهما حكم وقع بين المتخاصمين والثاني إثبات دعوى مدع على غائب.