ان الحياد يتطلب شروطا غير متوفرة بعد لدينا.
اتفاق المعسكرين العالميين على أن نبقى محايدين ويحترمان حيادنا أو أن نكون من القوة بحيث نستطيع أن نحمي حيادنا. أما المعسكران فلن نضمن موافقتهما على بقائنا محايدين بعد وأما قوتنا فهي غير كافية لإيقاف أي من المعسكرين إذا ما أراد اجتياح بلادنا وما حصل بالفعل هو أن الرئيس تيتو لم يستطع ضمان حياده، الكتلة الشرقية تقف له بالمرصاد أما الرئيس جمال فاضطر أن يجافي الغرب ويعتمد على الشرق. أما نهرو فهو في موقع ممتاز جغرافيا ذلك بالإضافة إلى عظمة الهند وقوتها السياسية والعددية. والنقطة الثانية التي اختلفت بها مع الرئيس جمال عبد الناصر هي الأخذ بمبدأ الوحدة بين البلاد العربية كما حصل بين مصر وسوريا بدل الاتحاد.
إنني ممن يعتقدون بأن إمكان تحقيق وحدة عربية من الدار البيضاء إلى البصرة أمر عسير التحقيق وغير عملي إذن فكان الأليق الأخذ بمبدأ الاتحاد وقد ظهر فعلا أن الوحدة بين مصر وسوريا أمر غير عملي ولذلك ألفت وزارتان إقليميتان الواحدة لمصر والأخرى لسوريا كما عين نائبا رئيس جمهورية لسوريا. ثم إني كنت أتوقع أن يدفع الرئيس جمال سوريا لأن تتحد مع العراق أولا وهذه ليست مسألة عاطفية شخصية فحسب بل إن مصالح البلدين سوريا والعراق هما أقرب إلى بعضهما من مصالح سوريا ومصر.
والأمر الثالث الذي اختلف به مع الرئيس جمال هو استخدامه ما يدعوه بأساليب الدعاية المثيرة إزاء الحكومات العربية التي لا تماشي سياسته وهذا الأسلوب من الدعاية هو الذي خلق المشاكل بين مصر والعراق ولبد الجو القومي مع الأسف الشديد.
إني كسياسي مدني أؤمن بأساليب الأخذ والعطاء والتفاهم بدل الشدة والعنف. هذه هي نقاط الخلاف بيني وبين الرئيس جمال عبد الناصر وهي تتعلق بالوسائل لا بالأهداف القومية التي أقدسها. وفي الحقيقة أن تخوفي من سياسة الرئيس جمال عبد الناصر كان يرجع إلى أنها قد تؤدي فيما إذا اصطدمنا بالغرب:
1 - اندلاع حرب عالمية ثالثة تحرق الأخضر واليابس.
2 - اندلاع حرب موضعية قد يخسر فيها العرب ويكسب العدو كما كسبت إسرائيل حرية المرور في خليج العقبة بعد العدوان الثلاثي الغاشم.
3 - أن تغتنم الشيوعية الدولية هذه الدعاية المثيرة فتثبت أقدامها في قطر من الأقطار العربية وذلك بسبب ما قد يحدث في ذلك القطر من اضطرابات وإخلال بالأمن.
هذا هو حسابي وهذه هي آرائي قد أكون مخطئا فيها وقد يكون الرئيس جمال هو المصيب في سياسته وأساليبه أن لا أدعي العصمة ولكني مخلص في رأيي على كل حل على ضوئه تصرفت بكل حسن نية.
السؤال الذي كان يخالج فكري كسياسي عراقي دوما هو ما يلي:
من حق مصر الشقيقة أن تختط السياسة التي تختارها لنفسها ومن حق الرئيس جمال أن يخطط لمصر السياسة التي ينسبها ولكن هل من حقه أن يفرض سياسته على بلد عربي آخر؟
نعم في إمكانه أن يقترح سياسته على البلاد العربية بالطرق الدبلوماسية وبأسلوب الكسب والصداقة، كما أن في إمكانه أن يقترح سياسته عن طريق جامعة الدول العربية. أما أن يفرض هذه السياسة على بلد آخر عن طريق الدعاية والتحامل على حكام بلد فهو ما سبب التأزم بين مصر والعراق في السنوات الأربع الماضية. وبما أنني أصابني رشاش من هذا التأزم في بداية الأربع سنوات وفي نهايتها فها أنا ألخص للمحكمة ما جرى معي:
ذهبت إلى القاهرة في بداية سنة 1954 يوم كنت رئيسا للوزارة وتناولت الغداء مع وفود الجامعة العربية على مائدة الرئيس محمد نجيب في نادي الضباط وبعد الغداء قال الرئيس محمد نجيب لي أنه يود أن نتعشى لوحدنا في داره تلك الليلة فقبلت مع الشكر على أن يرافقني السفير العراقي وكان من الجانب المصري جمال عبد الناصر عبد اللطيف البغدادي على ما أتذكر. تحدثنا عن العلاقات بين مصر والعراق وأنها يجب أن تتخذ شكلا تعاونيا بعد زوال عهد فاروق ثم تحدثنا مليا في مشروع الاتحاد العربي الذي كنت أحمله للجامعة فحبذه الإخوان كل التحبيذ وقالوا إن سياسة فاروق كانت مقاومة اتحاد العراق وسوريا والأردن لكي تبقى كل منها ضعيفة.
دعوتهم الليلة للعشاء في السفارة العراقية فلبى الرئيس جمال ولم يستطع الرئيس محمد نجيب الحضور لموعد سابق. وكانت مناسبة مفيدة إذ استعرضنا شؤون البلدين، وأخبرت الرئيس جمال عن عزمنا على مفاوضة الأمريكان للحصول على مساعدة عسكرية فاستحسن الفكرة وفي الوقت نفسه أشار إلى أن جريدة النيويورك تايم ذكرت أن العراق ينوي دخول الحلف التركي الباكستاني، ولما كانت مصر مشغولة في مفاوضات الجلاء مع بريطانيا فهو يرجو أن لا يقع ذلك أي اشتراك العراق في الحلف قبل انتهاء المفاوضات لكي لا يضعف مركز مصر في المفاوضات أجبته بكل سرور وهكذا عدت إلى بغداد متفاهما كل التفاهم مع إخواننا في القاهرة.
ولم تمضي مدة طويلة على عودتي إلى بغداد إلا وبدأت إذاعة (صوت العرب) تهاجم حكومة العراق وتتهمها بأنها استعمارية وقد انضمت إلى الحلف التركي الباكستاني وقامت مظاهرات في بيروت من أجل ذلك قتل فيها شاب وتعطل شباب آخر لإصابته بالعمود الفقري من أجل دخول العراق الحلف التركي الباكستاني والعراق لم يدخل الحلف التركي الباكستاني. فيظهر أن رسالة مدسوسة وصلت إلى الحكومة المصرية من إحدى العواصم العربية تقول إن العراق قد انضم إلى الحلف التركي الباكستاني سرا.
وقد اعتذر السيد صالح سالم بعدئذ لحكومة العراق على الهجمات التي شنتها الدعاية المصرية على الحكومة العراقية بلا سبب ولا مبرر.
ومضت شهور على استقالة وزارتي وجاء موضوع ميثاق بغداد الذي كان ينعت بالحلف التركي العراقي وهنا بدأت حرب باردة دامت ثلاث سنوات فعلا بين مصر والعراق وها أنا أتلو على المحكمة الجليلة صورة كتاب شخصي بعثت به إلى الرئيس جمال عبد الناصر بعد عودتي من القاهرة حين حضرت اجتماع رؤساء الوزارات وعلى أثر تفضله في إهداء كتاب فلسفة الثورة إلي ومن هنا تحكمون على الروح التي أحملها وأعتقد أن كل عراقي مخلص يحملها نحو إخوانه في مصر.
(الرسالة) سيادة الأخ الجليل البكباشي جمال عبد الناصر (هذا في سنة 1955) تحية كريمة.
وبعد فأسأله تعالى أن يأخذ بيدكم دوما إلى ما فيه خير مصر الشقيقة خاصة والعروبة عامة.
لقد تشرفت بتسلم ثم بتلاوة هديتكم الأخوية القيمة فلسفة الثورة فقدرت كل التقدير ما لمست فيها من حس مرهف وشعور وطني فياض ومجابهة للواقع المر المؤلم ومغامرة في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية والإصلاح الاجتماعي مع النظرة الشاملة إلى ما وراء حدود مصر إلى الدائرة العربية والإفريقية فالإسلامية. وفي الحقيقة إني من الموقنين بأن العرب لن تقوم لهم قائمة ما لم يفكروا تفكيرا أساسيا في أوضاعهم ويضعوا الخطط الإصلاحية