اليتيم أن يقهر والأيم. ما قد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة... " الخ.
وتسترسل الفصول على هذا النمط من العبارة، ويستفيد الكاتب من ثقافته اللغوية والأدبية والتاريخية، ومن الثقافة العامة أيضا ليوظف ذلك كله في فصوله، فيعطيها رصيدا ضخما من الإشارات والإحالات، وليمزج النص النثري بألوان شعرية مختلفة. وقد استغل الأبيات الشعرية ذات الأغراض المتعددة المتباينة فوجهها لتزيد النص - على ما قصد إليه - إثارة وإحكاما، قال في الفصل الثاني:
" يا لك من أنجم هداية، لا تصلح الشمس لهم داية. كفلتهم في حجرها النبوة (ذرية بعضها من بعض). سرعان ما بلي منهم الجديد وغري بهم الحديد. نسفت أجبلهم الشامخة، وشدخت غررهم الشارخة، فطارت بطررهم الأرواح، وراحت عن جسومهم الأرواح، بعد أن فعلوا الأفاعيل، وعيل صبر أقتالهم وصبرهم ما عيل!
يود أعداؤهم لو أنهم قتلوا * وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا تذامروا والردى موجه يلتطم، وتوامروا والقنا يكسر بعضه بعضا ويحتطم.
فإن يكونوا ما عرجوا في مراقي الملك فقد درجوا في مهاوي الهلك.
ونحن أناس لا توسط بيننا * لنا الصدر دون العالمين أو القبر وعلى هذا فقد نجموا ونجبوا مع الحتوف الشداد والسيوف الحداد، والتمر أنمى على الجداد. ما أعجب كلمة أبيهم ظهر صدقها فيهم: " بقية السيف أنمى عددا وأنجب ولدا "، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا).
رضوا في ذاته رضا، فمشوا إلى الموت ركضا " إنا والله لا نموت حبجا كما يموت بنو مروان ".
تسيل على حد الظباة نفوسنا * وليست على غير الظباة تسيل وخلاصة القول:
- إن ما كتبه ابن الأبار في (درر السمط في خبر السبط) هو نثر فني يعبر عن موضوع تاريخي، مزجه الكاتب بطاقة وجدانية عارمة، وأعد له قدرا كبيرا من الإشارات ووجوه الاحتجاج والاستشهاد، وعرض فيه براعته الفنية عرضا معجبا، وإن أثقل النص باختياره الأسلوب الشائع في زمانه من القيود البديعية والتلميحات الواسعة والاتكاء على النصوص التراثية.
- والكتاب: ذو مقصد واحد واضح، أدى التعبير عنه بنثر فني مزوق منمق متقن.
- والعبارة منمقة، مسجوعة، تعتمد - بالإضافة إلى السجع - على ضروب من الجناس، وقد يخرج الكاتب في الفواصل (أواخر السجع) إلى لزوم ما لا يلزم، كقوله من الفصل الحادي عشر:
" إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد. حلت في الجيل الجليل، وتحلت بالمجد الأثيل ثم تولت إلى الظل الظليل... ".
- ويتعانق الشعر والنثر في الفصول كلها. ومعظم الشعر من قصائد مشهورة قديمة، ليست أصلا من الشعر الذي قيل في المناسبات التاريخية ولا هو من الشعر الذي قيل في النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما وظفه الكاتب ليكون مجاريا للسياق، مناسبا للكلام، متداخلا مع النثر ليعطي الإحساس المطلوب، ويساعد على ظهور المقصد، ويرتفع بالقارئ إلى درجة التأثر القصوى.
- والنص يحفل بالاقتباس، والاستشهاد بآيات القرآن الكريم، والتحلية بالأحاديث النبوية، والأخذ من أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم.
- والنص زاخر بالإشارات التاريخية والتلميحات إلى الخلفاء والقادة والأشخاص المعاصرين ذوي الشأن.
- وأسلوب ابن الأبار في هذا الكتاب أسلوب مقيد، مصنوع، قال فيه العبدري صاحب الرحلة إنه نحا فيه منحى ابن الجوزي.
قال في ص (271 - 272) في ترجمة الشيخ الفاضل أبي محمد بن هارون (من علماء تونس: " وقرأت عليه: درر السمط في خبر السبط لأبي عبد الله القضاعي، وحدثني به سماعا وقراءة، وهو جزء وضعه في مقتل الحسين رضي الله عنه نحا فيه نحو طريقة أبي الفرج بن الجوزي " قال: " وكنت أتكلم معه في تعقب مواضع منه فيعجبه قولي فيها "... ولم يبين لنا تلك المواضع التي كان العبدري ينتقد ابن الأبار فيها، ولعلها في الواقف التاريخية خاصة.
ومعلوم أن بعض من ترجم لابن الأبار أخذ عليه بعض شططه في طريقة تناول أحداث من التاريخ أو في طريقة عرضها.
وللدارسين الباحثين من القدامى والمحدثين كلام في جوهر الكتاب وفي ألفاظ منه، وكلام آخر في الظروف التي أنشا فيها الكاتب كتابه تستحق أن تكون جزءا من دراسة واسعة أخرى عن النثر الفني في عصري المرابطين والموحدين.
وأزيد أمرا آخر هو أنني لاحظت أثر أبي عبد الله بن أبي الخصال، الغافقي الأندلسي أحد كتاب العصر السابق لابن الأبار في كتاباته، وفي درر السمط أيضا. وكان ابن أبي الخصال يعرف ب (رئيس كتاب الأندلس) وكانوا يحفظون رسائله حفظا ويستظهرونها زيادة في الاعجاب بها والتأثر، والنسج على منوالها.
وعدا عن الكتب التي ذكرت في ترجمته فإن له من المؤلفات: (رسالة المسفى الجميل ومحاذرة المرعى الوبيل في معارضة فلقي السبيل). نشرها المنجد في (رسائل ونصوص).
وله ديوان شعر نشره الدكتور عبد السلام هراس في الدار التونسية سنة 1985.
وقد سردت كتب التراجم لابن الأبار أكثر من أربعين كتابا ورسالة وفي جملتها (معدن اللجين في مراثي الحسين) وهو كتاب مفقود وقد قال عنه الغبريني في عنوان الدراية: ولو لم يكن له من التآليف إلا هذا الكتاب لكفاه في ارتفاع درجته وعلو منصبه وسمو رتبته.
ويتوزع كتبه الاهتمام بالحديث والتاريخ والأدب والتراجم والفقه. وقد ألف ابن الأبار في تراجم الأندلسيين وأخبار بلادهم كتبا مهمة ضاع كثير منها، وبقي القليل.
الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الله الشويكي توفي سنة 1254.