لقد ظلم أبو نواس - إذن - فانطبعت عنه في أذهان العامة طوال الأجيال صورة شوهاء مزورة وتجاوزت هذه الصورة في الأجيال الأخيرة أذهان العامة إلى أذهان فريق كبير من المثقفين وأنصاف المثقفين، وأعجب العجب في هذا أن يكتسب هذا الانطباع المزور عن أبي نواس صفة الأمر الواقع المسلم به حتى لقد اجترأ واضعو القصص السينمائية والمسرحيات على أن يطبعوا هذا الرجل العبقري الخالد بطابعه الشائه الزائف المفتري فإذا بهم يخرجونه على " الشاشة " أو على المسرح رجلا شانه التهريج والإضحاك والعربدة وإذا بجمهرة الناس مثقفين وغير مثقفين يشهدون أبا نواس على هذا الطابع ويأخذونه مأخذ المسلمات والبداهة ولا يثير فيهم غير بواعث المرح واللهو والمسلاة لكأنما صار ثابتا في الأذهان أن هذا هو أبو نواس الحق لا ذلك العالم الفقيه المحدث الفيلسوف الشاعر العبقري.
وأي دليل على هذا الذي أقول أقوى من إهمال كتابنا المحدثين شأن أبي نواس وهو أجدر أن ينال من دراساتهم التحليلية وأبحاثهم النقدية الحديثة نصيبا موفورا لأن شخصيته الأدبية تكاد تكون أغنى شخصيات الأدب العربي العباسي من حيث وفرة العناصر التي يأتلف منها هيكل الفن العظيم ومن حيث تعدد الجوانب التي يتسق بها لصاحب الفن شخصيته الممتازة ولولا أبحاث عابرة نشرها الدكتور طه حسين في " حديث الأربعاء " عن هذا الرجل المفترى عليه لكان عصرنا الحديث ما يزال جاريا مجرى العصور السوالف في تجاهل أبي نواس الحق ولكن أيكفي لإنصاف هذا الشاعر العظيم الذي ظلمته أجيال طوال أن يكتب عنه الدكتور طه حسين أبحاثا عابرة هي بالمقالات الصحفية الإنشائية أشبه؟
لا: إن من حق أبي نواس أن تكثر عنه في هذا العصر المستنير الدراسات الطوال والأبحاث التحليلية العميقة والمؤلفات الضخمة المشبعة وأنه لعجيب مدهش حقا أن ينبري لإنصافه قبل الأدباء والشعراء والنقاد المتوفرين لهذا الفن، عالم كبير من علماء الدين منصرف إلى التأليف في شؤون العلم، وفي قضايا الدين وفي نواحي التاريخ الإسلامي فإذا هو يخص أبا نواس المسكين المظلوم المفترى عليه لا ببحث مستفيض فحسب، بل بكتاب ضاف، شامل مستوعب يجلو به شخصية أبي نواس العالم والشاعر والمثقف والمحدث ثم يجلو به تلك الشخصية التي انطبعت في أذهان العامة والمثقفين طوال الأجيال السابقة، فإذا هي في هذا الكتاب الجديد، شخصية جديدة، تنكشف لنا عوامل تكوينها سافرة وإذا أبو نواس يبدو لنا من وراء هذه الشخصية صاحب دعابة وعربدة حقا ولكن لا عن زندقة، ولا ضعف ولا استهتار، ولا شهوة بل عن طبيعة نزاعة إلى الحرية تواقة إلى الخروج على القيود الموضوعة وهي طبيعة العبقري يتأبى على الأوضاع المألوفة أن تغل تفكيره أو تفرع حياته في قالب جامد صلب لا يقبل التكييف والتجديد.
لا: بل إنه لأكثر من عجيب مدهش أن يكون عالم ديني كبير كالسيد محسن الأمين المنصرف إلى كبار الشؤون الإصلاحية في الإسلام أسبق لإنصاف الشاعر العبقري الخالد أبي نواس من ذوي الشعر والأدب والنقد من أعلام هذا العصر بل إن ذلك مما يثير الاعجاب والإكبار بهذه السماحة وهذه الرحابة في الفكر والعقلية وهما صفتان عرفنا علامتنا الأكبر السيد محسن الأمين يمتاز بهما لا بين رجال الدين حسب بل بين رائدي البحث العلمي المجرد وكاتبي التاريخ الخالص.
هذا كتاب أبو نواس الذي أخرجه الامام الأمين أخيرا قد فرغت من قراءته خلال أيام أردت أن أفرع فيها للراحة وحدها فإذا هو يستبد بي فأجد فيه راحة النفس ومتعة الذهن وحلاوة التأليف المحكم المتسلسل يحكي قصة شاعر عرف ألوانا مختلفات من الحياة في عصر عرف ألوانا متنوعة من الحضارات والعقليات والأذواق.
وفي حياة أبي نواس مشاكل وعقد كثيرة لا تزال بكرا في عالم البحث والتحقيق منها عروبة الشاعر وشعوبيته المزعومة ومنها عقيدته ودينه وزندقته ومنها سلوكه الاجتماعي الذي لون حياته وشخصيته بتلك الألوان الشائهة المزيفة المزورة ومنها تمرده على المألوف من أوضاع أهل الأدب وعلى المصطلح من الأفكار الشائعة والتقاليد الأدبية المتبعة ومنها قصة التجديد الأدبي التي استطاعت أن تلفت الأذهان من بين ركام الزيف والتزوير والافتراء التي أحاطت بشخص الشاعر ولكن هذه القصة ظلت غامضة ذات مجاهيل كثيرة لم يتعرف إليها الرواد والباحثون، ولم يضع أحد حتى الآن حدودا واضحة لألوان التجديد الأدبي الذي عرف به أبو نواس الشاعر.
هذه المشاكل والعقد في شخصية الرجل استطاع كتاب " أبو نواس " أن يقتحمها جميعا ببساطة في الروح وعمق في البحث، ودقة في الاستقصاء والتحقيق والتدقيق وبأمانة في التاريخ لا نعرف لها مثيلا. ولقد خرجت أنا من هذا الكتاب بحقائق جديدة. ولقد تجلت لي شخصية أبي نواس بأوضح ما كنت أطلب أن تنجلي لي شخصية شاعر أحيطت بذاك الركام العجيب من الباطل. وقد شفع علامتنا الأكبر بحثه النفيس هذا بمختارات نفيسة من شعر الشاعر تصلح أن تكون أمثلة صادقة لكل نوع من أنواع الشعر التي عرف بالتجويد فيها أو بالإبداع. ولم تفت المؤلف - حفظه الله - ملاحظات نقدية بارعة استدرك بها على الناقدين أو المؤرخين أو مؤلفي كتب الشعر والأدب. وإنا لنتمنى على سماحته - وقد عرفنا فيه روح الباحث المدقق الأمين - أن يضيف إلى فضله هذا فضلا آخر بأن يحقق ديوان أبي نواس تحقيقا علميا على الطريقة العلمية الحديثة التي نعرف أنه من أعلامها اليوم، ثم يطبعه طبعة علمية محققة، لأن ديوان هذا الشاعر كشخصيته قد افتري عليه، ولحقه الزور والتشويه بأشنع ما يلحق الزور والتشويه أمرا من الأمور فضلا عن تشويه المطبعة وتزويرها.
وأخيرا: هل أراني - بعد الذي قلت محتاجا إلى القول إن كتاب " أبو نواس " يجب أن يشيع في طبقات المثقفين وأنصاف المثقفين لكي يرفع عن أبي نواس الشاعر العظيم تلك الأوهام الباطلة، ويجلو شخصيته الحقيقية كما كانت لا كما صورها المفترون؟
الشيخ حسن البحراني بن علي.
توفي سنة 1340 كتب ترجمته بنفسه في كتابه (أنوار البدرين) فقال إنه توفي والده وعمره ثماني سنوات ثم قال: كان مولدي كما أخبرني به بعض أرحامي المطلعين الثقات سنة 1274 ه فكنت مع الوالدة المرحومة حتى وقعت الواقعة العظيمة على بلادنا البحرين سنة 1284 ه التي قتل فيها حاكمها (علي بن خليفة) وغيره فتفرقت أهلها في الأقطار وتشتتوا في الديار فكنت ممن رمته مناجيق الأقضية والأقدار وقذفته نون الآونة والاخطار في بلاد القطيف مع الوالدة المقدسة وقد كان الأمجد الأرشد المرحوم العلامة أعلى الله مقامه في دار المقامة (1) قد سكنها مع الأهل والأولاد وشرف تلك البلاد فصرت في حجره وتربيته فقربني وآواني وعلمني وحباني وقدمني على أولاده فضلا عن أقراني وكان شيخي وأستاذي وجد