على أساس الواقع وهذا لا يتم ما لم يستند على الدرس العميق الشامل على أسس علمية لكل أحوالنا وشؤوننا دولية كانت أو داخلية ثم التحلي بروح العزم والإخلاص والصدق والتواضع ولا أقصد بالتواضع الاستكانة أو الاستسلام بل الاعتراف بالحقيقة والواقع دون مبالغة.
أود أن أسجل هنا أن أكبر فائدة استفدتها باجتماع رؤساء الوزارات العربية عدى ما ساد الاجتماع من صراحة وكشف للواقع هو التعرف إلى شخصكم الكريم ولا أخفي عليكم بأني مهما اختلفت معكم في بعض الآراء ولا سيما في تقدير الطرق لمجابهة الوضع فأرى فيكم دوما أخا مخلصا في القومية العربية وذلك لما لمسته فيكم من روح سام وحب للخير أرجو أن يسودا كل الإخوان الذين يعملون تحت لوائكم، وعلى ضوء هذه المعرفة الشخصية أود أن أقرر لسيادتكم بأن التآخي والتعاون والتفاهم بين مصر والعراق هو الأساس لكل نهضة عربية فالعراق ومصر هما الجناحان اللذان يطير بهما النسر العربي ولا يمكن أن يطير نسر بجناح واحد أقسم لكم بالأخوة القومية أن الخطوة التي خطاها العراق كانت منبعثة عن قناعة قومية لحاجة دفاعية ملحة في موقف دولي خطير هذا هو اجتهاد جل من مارسوا المسؤوليات السياسية في العراق. ولم يدر في خلد أحد أن ضمان سلامة العراق سيكون داعيا لتأثر الحكومة المصرية وقلقها أو أنه أريد به مس أو إضعاف الضمان الجماعي العربي إذ كيف يفكر في هذا الأمر من يعتبر مصر كالعراق وطنا له والمصرين أخوة. والآن وقد وقع ميثاق التعاون بين العراق وتركيا فالمأمول من سيادتكم عملا بروح المبدأ القومي الذي تعتنقونه أن تعملوا في إنهاء التوتر الذي قام بين القطرين الشقيقين ذلك التوتر الذي لم يستفد ولن يستفيد منه إلا الأعداء وفي مقدمتهم إسرائيل. وما العدوان الإسرائيلي الأخير الذي اهتزت له مشاعر كل عراقي إلا نتيجة لهذا التوتر الذي يزيد الخصوم استغلاله أبشع استغلال. أما المحاولات التي يقوم بها سيادة الأخ صلاح سالم من أجل إنشاء ضمان جماعي أو اتحاد عربي بدون العراق فهي لا تخدم أهداف العرب العليا فهي في الحقيقة تتنافى مع أبسط المبادئ القومية التي نؤمن بها جميعا فرجائي من سيادتكم أن تأخذوا بنظر الاعتبار سياسة العراق التقليدية وتتدارسوا الأوضاع الدولية مع رجال العراق المجربين وتتفقوا على الخطة المثلى للسياسة العربية في الوضع الدولي الراهن فذلك خير وأجدى لمصر والعراق والعرب جميعهم يسرني أن أهدي لسيادتكم نسخة من خطاب ألقيته في البرلمان العراقي سنة 1949 أي قبل ست سنوات عن السياسة الخارجية العراقية ومنه يتضح أن ما قام به العراق اليوم لم يكن وليد الارتجال إنما هو تنفيذ لسياسة ثابتة مستقلة لم يحد عنها. رجائي لسيادة الأخ أن يعمل مسرعا لتصفية الجو وإعادة الحياة إلى مجاريها بين مصر والعراق والأخذ بروح الأخوة والصداقة والمصلحة العربية العليا التي لا يمكن أن تتجزأ. تلك المصلحة التي يجب أن تبنى على وحي العصر والأخذ بحقائق السياسة الدولية ومعرفة المخاطر المحدقة بنا من جهة ومعرفة أوضاعنا معرفة لا مغالاة فيها ولا ادعاء من جهة أخرى وأخيرا أهدي إليكم فائق احترامي وجميل تحياتي وأطيب تمنياتي.
أخوكم المخلص فاضل الجمالي ولما تفاقم الوضع بين مصر والعراق ربيع 1955 تقدم الرئيس كميل شمعون باقتراح إلى الرئيس جمال بأن يلغي ميثاق بغداد على أن يقوم الرئيس جمال عبد الناصر بدعوة كل الدول العربية ودول ميثاق بغداد الإسلامية لعقد ميثاق جديد ولكن الرئيس جمال لم يجب على هذا الاقتراح على ما أعلم.
اجتمعت بالرئيس جمال في مؤتمر باندونغ نيسان 1955 ورجوت وضع حد للإذاعات وكانت قد ظهرت إذاعات سرية على ما أخبرني سيادته لإنهاء التهاتر بين البلدين الشقيقين فوافقني على ضرورة ذلك ووعد ولكن شيئا لم يحدث. اجتمعت في خريف 1955 مع الدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر في نيويورك وتحدثنا في المصالح العربية وضرورة تنسيق سياسة البلدين مصر والعراق فإذا وجدت مصر أنها تستفيد من الجبهة الشرقية قد تفعل ذلك فإذا وجد العراق أنه يستفيد من الجبهة الغربية فليفعل ذلك على أن يكون هناك تفاهم ووئام وأخوة بين البلدين وأن توقف المهاترات في الدعاية فاتفقنا على ذلك ولم يحدث شئ من ذلك.
حدث الهجوم الغاشم على القنال في 1955 وأنا في طريقي إلى جمعية الأمم المتحدة. وقفت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة أدافع عن مصر أقوى دفاع وقفت أدافع عن العراق بالفعل إذ أن مصر والعراق واحد في شعوري ويؤسفني أن أسمع بعدئذ أن الحكومة العراقية لم تذع خطبي الدفاعية عن مصر في الإذاعة العراقية مما جعلني أرسل برقية إلى رئيس الوزراء أسأله إذا كانت سياستي غير موافقة للحكومة لماذا لا تخبروني وإذا كانت موافقة للحكومة تؤيدها لماذا لا تذاع خطبي؟
ولذلك فخطبي غير معروفة لدى الرأي العام هنا ولكن محاضر الجمعية العمومية موجودة ومجموعة خطبي في الأمم المتحدة سنة 1956 و 1957 أرجو أن تكون موجودة لدى المحكمة المحترمة لأني طلبت إرسالها من قبل وزارة الخارجية. أرجو أن تراجع خطبي السبعة أو الثمانية في الدفاع عن مصر. وأرجو من المحكمة الجليلة أن تطلع عليها لتعرف بأني حين قلت لوزيرة خارجية إسرائيل حين هاجمت الرئيس جمال عبد الناصر: كل ساسة العرب هم جمال عبد الناصر وكل الأقطار العربية هي مصر كنت أعني ذلك من أعماق قلبي هذا وأني لأرجو أن يستشهد الدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر اليوم عن موقفي في الأمم المتحدة أثناء العدوان المثلث. ولكي تقدر المحكمة المحترمة موقف إذاعة (صوت العرب) من شخصي آنذاك أسوق لها الحادثة التالية:
في الوقت الذي كنت أدافع عن مصر أحر دفاع بحثت اللجنة السياسية في الأمم المتحدة موضوع نزع السلاح فاغتنمت الفرصة وهاجمت سياسة الغرب التي توازن بين تسليح الدول العربية وتسليح إسرائيل وقلت إن هذه سياسة جائرة وهي سبب الاضطرابات في الشرق الأوسط وهي التي تشجع إسرائيل على العدوان المتكرر على البلدان العربية المجاورة وأيدت مصر في حصولها على الأسلحة من الجانب الشرقي وبالوقت نفسه طلبت أن ينزع سلاح إسرائيل أو يوقف تزويد هذا السلاح حتى يكون لديها ما يناسب حجمها.
تكلم بعدي مباشرة مندوب مصر فأيد ما قلته كل التأييد ومحضر اللجنة السياسية موجود أتدرون يا سادتي ماذا أذاعت إذاعة صوت العرب؟ أذاعت أن الجمالي يطالب بتسليح إسرائيل. جائتني برقية من بغداد تسأل عن الواقع فأرسلت نص خطابي حرفيا.
جرت محاولات عديدة لإحلال التفاهم بين ساسة مصر والعراق وحاول بعض رؤساء الوزارات السابقين أن يجتمعوا بالرئيس جمال فلم يفلحوا ومع أن الرئيس جمال قد أبدى إلى السيد توفيق السويدي أنه نادم على مهاجمة ميثاق بغداد ونادم على مجافاة الغرب إلا أن آثار هذا الندم لم تظهر عمليا. ولكن الحرب الباردة اشتدت خاصة بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة ثم اتحاد العراق بالأردن وقد نالني من هجوم الدعاية المصري نصيب وافر على أثر اعتراضي على الوحدة بدل الاتحاد وكونها مع مصر قبل أن تكون مع العراق.
إني كسياسي حر في إبداء رأيي واجتهادي وليس من الضروري أن يكون رأيي صائبا أو مقبولا أما حرية إبداء الرأي فهي من الأمور الأساسية في الحياة