رئيس وزراء على الاستقالة قبل تقديمها، ذلك لأن علاقة رؤساء الوزراء بالعرش كانت حسنة دائما، فكانوا يخبرون مسبقا عن استقالتهم قبل تقديمها.
ثم تكليف الدكتور الجمالي ليقوم بتأليف وزارته الثانية التي لم تستمر في الحكم سوى أقل من شهرين على رغم بعض التبديلات التي أجراها في المشتركين معه في وزارته الجديدة.
ألف الدكتور محمد فاضل الجمالي وزارتين في العهد الملكي الواحدة بعد الأخرى، الأولى في السابع عشر من أيلول (سبتمبر) سنة 1953 التي استقالت في الثامن من آذار (مارس) السنة التالية، ليؤلف الجمالي نفسه وزارته الثانية في اليوم ذاته، وكانت من أقصر الوزارات العراقية عمرا، فقد بقيت في الحكم لغاية التاسع والعشرين من نيسان (ابريل) 1954.
إن المعارضة لم تقدر توجهات الجمالي الديموقراطية بصورة صحيحة، ففوتت على نفسها، وعلى العراق فرصة تاريخية نادرة لأنها كانت تنظر إلى حجمها، ووزنها بصورة غير واقعية. (انتهى) تلخيص نص الدفاع وإننا لننشر هنا تلخيصا لنص الكلمة التي ألقاها فاضل الجمالي دفاعا عن نفسه. وقد كان من أشد مآسي الدهر أن يقف اليوم مدافعا عن نفسه في قاعة محكمة المهداوي، من كان يقف بالأمس في قاعة الأمم المتحدة مدافعا عن قضايا العرب، وأن تتحول بلاغته من الدفاع عن شعوب الأمة العربية في أعلى منصة عالية، إلى دفاع عن نفسه في أقذر منصة عربية!..
قال الجمالي: يندر أن تجدوا رجلا حيكت حوله الإشاعات وبثت الدعاية الظالمة التي حاولت تشويه حقيقته كفاضل الجمالي. إذن التفريق بين الإشاعة والواقع في قضيتي هي من أهم واجباتكم وهو ليس بالأمر الهين وقد قال أفلاطون في جمهوريته ما معناه (أن أعدل الناس هو ذلك الذي يعمل بمنتهى العدالة ويظهر وكأنه أكثر الناس ظلما) بسبب الدعاية طبعا. وهذا ما ينطبق علي تقريبا أن الدعايتين الصهيونية والشيوعية تحارباني منذ سنين وفي هذه السنة خاصة قامت إذاعة (صوت العرب) وما يمثله من جهاز دعاية تبث دعاية حاولت أن تطمس ماضيي وتظهرني على عكس حقيقتي ذلك لأني صاحب عقيدة ولي سياسة أجاهر بها وأدافع عنها. ولقد نجحت الدعاية ضدي إلى درجة جعلت صديقا لي صحافيا أعرفه ويعرفني منذ أكثر من أربعين سنة يصدق بأني قدمت احتجاجا لأن خارطة البلاد العربية نشرت بلون واحد ونسي الصديق بأن أطلس المدارس الابتدائية والثانوية في ثلث البلاد العربية بلون واحد يوم كنت في وزارة المعارف قبل خمسة وعشرين سنة، أجل يا سادتي لقد استخدمت أضخم وأعظم أجهزة للدعاية في العالم لتشويه حقيقتي ولكن الحقيقة إذا طمست بعض الوقت عن بعض الناس فلن تطمس إلى الأبد عن جميع الناس وبذلك فإني أستميحكم عذرا إذا ما لخصت لكم بإيجاز كل عقائدي وصفحات حياتي وسجل خدماتي لأمتي وذلك لأعينكم على التمييز بين الدعاية والواقع أما عقائدي فتتخلص بما يلي:
1 - الإيمان بالله. فأنا مؤمن بالله مسلم وأنا أعتقد أن الإيمان بالله هو أسمى ما توصلت إليه الإنسانية في أوائل نشوئها الروحي.
2 - الإيمان بالقومية ومن ضمنها القومية العربية والاعتقاد بأن الأمة العربية من الدار البيضاء إلى البصرة تكون جزء واحدا وأن لها رسالة الأخوة والسلام للإنسانية جمعاء وأن من أجل أماني القومية هي تحرير كل بقعة عربية من الاحتلال الأجنبي وإحلال الاتحاد بين البلاد العربية جميعا.
3 - الإيمان بالكرامة الإنسانية المؤسسة على العلم أي الحقيقة والحرية والعدل الاجتماعي وهذا أسمى ما توصلت إليه المدينة الإنسانية في تاريخ نشوئها. ولم أجد المبادئ هذه مطبقة تطبيقا صحيحا لا في البلاد المتطرفة الرأسمالية ولا في البلاد الشيوعية بل وجدتها مقبولة إلى حد كبير في البلاد الإسكندنافية كالسويد والدنمارك. وصار همي في حياتي من جهة واحدة مكافحة الرجعية التي نشاهدها في الاستعمار الغربي وفي الاستغلال الطبقي والإقطاع والتعصب الطائفي والعنصري ومن الجهة الأخرى صرت أكافح الشيوعية ولا أقصد بالشيوعية التذمر من الأوضاع الحاصلة وانتقادها هذا من حق كل إنسان حر بل تلك الحركة التي تعمل على نسف الكيان القومي والسير في ركاب الكومنتان أو الكومنفورم حيث يتآخى الشيوعي العربي مع الشيوعي الإسرائيلي تلك الحركة التي تأخذ بالمادية الديالكتيكية وتنكر الحياة الروحية ووجود الخالق الأعظم وتستعين بالفوضى وبالبغضاء والكراهية بين الطبقات وبالقسوة لبلوغ مآربها. والحقيقة هي أن الرجعية والاستعمار هما اللذان ينشران الشيوعية في العالم وما يحتاجه العالم اليوم هو حركة إطلاقية روحية تقضي على الرجعية والاستعمار من جهة وتهدي الشيوعيين إلى الإيمان بالله وإلى الرحمة والمحبة بدل القسوة والبغضاء من جهة أخرى.
على ضوء هذه المبادئ السياسية التي تمشيت عليها في الحقل الدولي سياستي كانت مكافحة الاستعمار الغربي في كل مكان ودعوة الغرب خاصة في الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية إلى إنصاف الغرب بحل قضية فلسطين حلا عادلا وبالقضاء على بقايا الاستعمار الغربي في شمال أفريقيا وفي أطراف الجزيرة والخليج وبإنصاف العرب بالتسلح والتصنيع وكنت أدعو إلى تبادل المصالح مع الغرب على أسس المساواة والإنصاف كما أدعو إلى تعاون ثقافي وعقائدي صحيح، إذ بذلك كله نستطيع أن ندرأ الخطر الشيوعي عن أنفسنا.
هناك مبادئ ومخابرات تقدر المحكمة مثلا محاضرتي في المجلس الاقتصادي في ديترويت عن الشرق الأوسط من الرابح في الشرق الأوسط الشرق أم الغرب وهناك محاضرة ألقيتها في بون في جمعية السياسة الخارجية الألمانية في السنة الماضية أيضا توضح آرائي للغرب وهناك رسالة بعثتها إلى مدير التصنيع الأمريكي السابق أبين فيها مصائبنا ومشاكلنا وعلاقتها بالغرب وكيف أن الشيوعية تنشر من وراء هذه السياسة. هذه رسائل ونماذج من آرائي أترك تقديرها للمحكمة.
وفي كل هذه الدراسة نقدات لاذعة لسياسة الغرب نحو العرب وما انطوت عليه من رجعية وقصر نظر مما سببت الكثر من المآسي للغرب، ثم مكافحة الشيوعية. والشيوعية بذلك يجب أن تكافح بالإصلاح الاجتماعي والإنعاش الاقتصادي وبالتربية العقائدية السليمة وليس بالكره والضرب رأيي أن الشيوعية هي أيضا استعمار ولكن في شكل جديد ونحن إذا ما عملنا لتحرير أنفسنا من الاستعمار الغربي لا يجوز أن نعوض عنه بالاستعمار شيوعي ورب سائل يسأل أن الاستعمار الغربي حقيقة واقعة والشيوعية لم تؤذنا بشئ؟
هذا صحيح ولكن الاستعمار الغربي في طريقه إلى الموت والزوال النهائي كلنا نعرف خطره وكلنا نمقته، أما الشيوعية فهي خطر أخذ بالنمو والتوسع والكثيرون غير شاعرين بخطره كما اختبرت ذلك في زيارتي للشرق الأقصى سنة 1955 لهذا فقد تعاونت دوما في الأمم المتحدة مع الكتلة الشرقية في مكافحة الاستعمار الغربي كما تعاونت مع الغرب في مكافحة الشيوعية. أما الصهيونية فهي في عقيدتي عدوة العرب الأولى ويجب أن تكافح لتكوين أمة عربية حية واعية منظمة متحدة ومسلمة. هذه هي بإيجاز معتقداتي والسياسة التي تنبثق عنها وأني لأرجو أن تتصفح المحكمة المحترمة خطبي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولا سيما الخطب الافتتاحية للسنوات 1954 و 1955 و 1956 وهي السنوات الثلاث الأخيرة التي حضرتها في الأمم لتتأكد المحكمة من أني لم أتزحزح عن هذه السياسة. أما سجلي في الخدمة وهو من