وتفصيلها، كما عمد لنفس الغرض إلى بيان ما اختلف من الاصطلاحات المطلقة على المصداق الواحد، مما يؤدي إلى معاناة فكرية قد ينجم عنها اضطراب في الذهن إذ الواقع أن كل مرتبة تخطى من الأسماء بمقدار ما لها من الاعتبارات والجهات. ومع أن أقواله جاءت كافية في الاستدلال بذاتها غنية عن الاستشهاد بغيرها، الا أنه عمد إلى تعزيز أقواله بأقوال أكابر المحققين الاعلام بله الآيات القرآنية والمأثورات النبوية ومن ثم أضاف إلى الرسالة أبعادا أخرى من التمكين والإفادة.
ومهما يكن، فالحضرات خمسا كانت أو أكثر أو أقل، والآراء في صددها معروفة لدى أهل الفضل، ولا نرى داعيا لفضول الإشارة إليها، وحتى لا نفسد على القارئ لذة استكشاف الحقائق بنفسه بتكرارنا لها. الا أن الذي ينبغي الا يفوتنا هو أن نشير إلى أن الرسالة لم تستوعب الحضرات أو المراتب كلها، الأمر الذي يعدنا به عنوان الرسالة.
والذي حدث أن المؤلف استوفى الكلام في مراتب الغيب ولم يتعرض لمراتب الشهادة. فتكلم عن غيب الهوية ومقام اللاتعين، ثم اقتضاء الاسم " الظاهر " للتعين الأول في صورة الوحدة البرزخية الجامعة بين البطون والظهور بالتساوي، وفيما لهذه الوحدة الحقيقة من اعتبارين: أولهما الاطلاق بدون شرط، وسقوط الاعتبارات، حيث تسمى الذات " أحدا ". ومتعلق هذه الأحدية بطون الذات واطلاقها وأزليتها وهنا موطن الألوهية، والآخر ثبوت الاعتبارات غير المتناهية وتقيدها بالاطلاق، حيث تسمى الذات واحدا بهذا الاعتبار ومتعلق الواحدية ظهور الذات ووجودها وأبديتها. وهذا الاعتبار الثاني هو التعين الثاني أو المرتبة الثانية للوجود حيث تظهر الأشياء بصفة تميز علمي في الذات، ولهذا سميت هذه المرتبة أو الحضرة بعالم المعاني، وحضرة الارتسام، وحضرة العلم الأزلي ومرتبة الامكان. وهي كما عبر الأشكوري أول مراتب الظهور بالنسبة إلى الغيب الذاتي. وهنا موطن الربوبية، وهنا موطن الأعيان الثابتة. اما بالنسبة للمراتب أو الحضرات الأخرى من مرتبة الأرواح التي تعرف أيضا بعالم الأمر وبالعالم العلوي وبعالم الملكوت، وما ليس له منها تعلق بعالم الأجسام من المهيمين وحجاب سرادق العزة ووسائط فيض الربوبية وما إلى ذلك، وما له منها تعلق بالأجسام وهي الروحانيات من أهل الملكوت الاعلى المتصرفين في السماويات، وأهل الملكوت الأسفل المتصرفين في الأرضيات، واما حضرة المثال، هذه الحضرة الوسطية بين عالم الأرواح وعالم الأجسام، التي يطلق عليها الشرع اسم البرزخ لكونها فاصلا بين الجسم المادي المركب والجوهر العقلي المجرد، هذا البرزخ بقسميه، البرزخ الاعلى أو الغيب الامكاني، لإمكان ظهوره والبرزخ الأسفل أو الغيب المحالي، المحال ظهوره أو عودته، واما مرتبة الأجسام علوياتها وسفلياتها، وأخيرا، اما مرتبة المظهر الكلي أو حضرة الكون الجامع للأمر الإلهي، الانسان الكامل الجامع بين مظهرية الذات المطلقة وبين مظهرية الأسماء والصفات والافعال بما في نشأته الكلية من الجمعية والاعتدال وبما في مظهريته من السعة والكمال، الجامع أيضا بين الحقائق الوجوبية ونسب الأسماء الإلهية وبين الحقائق الامكانية والصفات الخلقية، فهو جامع بين مرتبتي الجمع والتفصيل محيط بجميع ما في سلسلة الوجود: أما هذه الحضرات، فلم يتعرض لها الأشكوري في رسالته.
والذي حدث انه عندما تعرض بالحديث إلى علم الحق، وانه علمان علم علمه ملائكته ورسله وعلم استأثر به لنفسه لا يطلع عليه أحد سواه، وان الإحاطة بجميع ما انطوت عليه الذات من الأمور الكائنة في غيب كنهها مستحيلة. وما قيل من: انه ربما يكون في الحضرة العلمية الأزلية أمور باطنة كلية أو جزئية لم تتعين بعد لا في المرتبة الثانية والحضرة العلمية والقلمية ولا في اللوح المحفوظ، تطرق الكلام به إلى مسالة " البداء " وبيان حقيقته والواقع ان ما تطرق إليه لم يكن بأقل أهمية أو لزوما مما ترك. ولعل المقام كان يقتضي ذلك، فخير الكلام ما جاء في مناسبته.
محمد بن هاني الأندلسي مرت ترجمته في الجزء العاشر الصفحة 85 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
إذا كان المدح قد فرض على الشعر العربي فأصبح الشاعر ولا حيلة له إلا صوع المدائح ليستطيع العيش فقد كانت حظوظ الشعراء في هذا السبيل مختلفة، مختلفة لأن شاعرا قد يوفق لممدوح لا يخجله مدحه لبطولة فيه أو سجايا حميدة، ومما لا يبدو معه الشاعر بادي الكذب ظاهر الدجل واضح الاستجداء...
كما قد لا يوفق شاعر آخر لمثل هذا الممدوح، وقد يكون في مجموعه أولى بالذم والتجريح منه بالثناء والمديح. ومع ذلك فالشاعر مسوق إلى مدحه مدفوع إلى الإشادة به لأن الرزق في يديه، والمال رهن كلمته.
على أن حظ الشاعر الواحد قد يختلف بين ممدوح وآخر، فحط المتنبي وهو عند سيف الدولة غير حظه وهو عند كافور. وإذا كانت قصد المتنبي في سيف الدولة هي في أصلها مدحا، فإنها أيضا اعجاب ببطولة الرجل العربي الصامد في وجه الغزو الأجنبي، المكافح عن الحمى الوطني. ومعارك التي شهدها المتنبي مع سيف الدولة جديرة بأن توحي إليه بمثل ما أوحت حتى ولو لم يكن المتنبي يقصد المدح أو لو لم يكن الكسب من غاياته.
والأمر مع المتنبي يجري على هذا القياس حتى وهو يمدح غير كافور ممن لم يكن يزري مدحهم في ذلك العصر مثلما كان يزري مدح كافور. فالمتنبي وهو يمدح عضد الدولة كان في موقف غير موقفه وهو يمدح سيف الدولة وإذا كان عضد الدولة من الملوك الذين لا مغمز فيهم، وله من المآتي ما يصح معه أن يكون ممدحا. فهو على كل حال ليس في وضع يشبه وضع سيف الدولة وهو لم يكن الجندي المقاتل للعدو الخارجي، ولا وضعته الأحداث في لهوات الحرب الوطنية فما يمكن أن يوحي به لشاعر كالمتنبي يستطيع أي أمير أن يوحي بمثله.
ومن هنا تراجعت قصائد المتنبي في مدح عضد الدولة عن قصائده في مدح سيف الدولة وقد كان هذا التراجع واضحا لكل ذي حس شعري، واعترف به المتنبي نفسه.
والواقع أن ما كان يهز المتنبي وهو يشهد معركة الحدث مثلا مع سيف الدولة فينطقه بهذا القول:
هل الحدث الحمراء تعرف لونها * وتعرف أي الساقيين الغمائم سقتها الغمام الغر قبل نزوله * فلما دنا منها سقتها الجماجم بناها فاعلى والقنا يقرع القنا * وجيش المنايا حوله متلاطم وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم ومن طلب الفتح الجليل فأنما * مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم لم يكن عند عضد الدولة مثله ليهتز له المتنبي، وبالعكس من ذلك، عندما مست قلب المتنبي عاطفة جياشة فرأى جمال الطبيعة في شعب بوان، ثم لم يسمع في تلك المغاني لسانه العربي، عاد متأثرا لما يرى ويسمع، ففاض