الأحمر!
ويأسف على أيام السلم الوادعة التي انطوت بلا قتال تزهق فيه النفوس وتطيح الهامات!
هل المعري هو الذي يتكلم؟ اجل هو المعري بلسانه الطلق وبيانه الفياض!
إذا كانت الإنسانية هي التي أوحت للمعري ان يقول للذين ذبحوا له (الفروج) وأنضجوه وقدموه له ليأكله في مرضه الذي أنحله: " استضعفوك فوصفوك... هلا وصفوا شبل الأسد... " ثم يمتنع عن اكله استفظاعا لتخيل دمه المراق!
إذا كانت الإنسانية هي التي رققت قلب المعري، فان الوطنية هي التي قست ذلك القلب الرحيم، فجعلت الدم المراق عنده أجمل منظر وأعذب مرأى!
دم الأعداء الذين لم يتورعوا عن اقتحام وطنه واستباحة ارضه وترويع أهله و تشريد سكانه!
ثم يشتد في القول فيخاطب الغزاة مهددا متوعدا بمواصلة الحرب:
بني الغدر هل ألفيتم الحرب مرة * وهل كف طعن عنكم ونضال وهل اطلعت سحم الليالي عليكم * وما حان من شمس النهار زوال وهل طلعت شعث النواصي عوابسا * رعال ترامى خلفهن رعال لها عدد كالرمل المبد على الحصا * ولكنها عند اللقاء جبال فان تسلموا من سورة الحرب مرة * وتعصمكم شم الأنوف طوال (1) خذوا الآن ما يأتيكم بعد هذه * ولا تحسبوا ذا العام فهو مثال ثم يعود إلى ذكر الدماء بعد ان يصف الخيل العربية واثبة بفرسان العرب، وان تلك الخيول الظامئات لن يكون الماء موردها، ولن يرويها الا دماء الروم:
يردن دماء الروم وهي غريضة * ويتركن ورد الماء وهو زلال وفي قصيدة أخرى يندد بالانهزاميين الذين يخوفون المواطنين باس الروم ويحث قومه على الثبات:
أيوعدنا بالروم ناس وانما * هم النبت والبيض الرقاق موام ويذكر مواطنيه بانتصاراتهم السابقة على الروم وان ما يوعدهم به الانهزاميون لن يكون مصيره بأفضل:
كأن لم يكن بين " المخاض " و " حارم " * كتائب يشجين الفلا وخيام ولم يجلبوها من وراء " ملطية " * تصدع أجبال بها واكام كتائب من شرق وغرب تألبت * فرادى اتاها الموت وهي توام بيوم كأن الشمس فيه خريدة * عليها من النقع الاحم لثام كأنهم سكرى أريق عليهم * بقايا كؤوس ملؤهن مدام فاضحوا حديثا كالمنام وما انقضى * فسيان منه يقظة ومنام ويبدو ان البيزنطيين (الروم) قد ارسلوا يفاوضون على الصلح وانهاء الحرب مما لم يعجب المعري لأنه يريد أهداف أمته كاملة ولو أدى الامر إلى ما يمكن ان يؤدي اليه من الضحايا الكثيرة: قتلى وجرحى. وهنا نرى المعري داعية حرب لا هوادة فيها، حرب تسيل فيها الدماء اي مسيل فهو يخاطب المفاوض العربي بهذا القول الصريح ويحدد له الموقف المطلوب:
وردوا إليك الرسل، والصلح ممكن * وقالوا على غير القتال سلام فلا قول الا الضرب والطعن عندنا * ولا رسل الا ذابل وحسام فأن عدت، فالمجروح توسى جراحه * وان لم تعد متنا ونحن كرام فلسنا وان كان البقاء محببا * بأول من اخنى عليه حمام هذه صفحات من تاريخنا النضالي كان فيها الشعراء مع الفرسان جنبا إلى جنب في كفاح الغزاة، تاريخنا النضالي الذي اطلق شاعرا وديعا رقيق القلب عطوف النفس من محبسيه واعاده من الدعوة إلى الهدوء والحنان والتعاطف، إلى الصخب والقسوة والعنف، من داعية سلام إلى داعية حرب عنيف الدعوة صارمها.
وإذا كان اعجابنا بالمعري المسالم الهادئ العطوف عظيما، فأن اعجابنا بالمعري المحارب الثائر الحاقد الدموي أعظم.
الحجاج بن يوسف قال كاتب يصف الحجاج بن يوسف: " نشر الأمن والأمان والأمانة والايمان ".
ثم قال: وكان الحجاج عادلا في الحكم بالفعل ".
والكاتب في هذا الكلام يرد بدون ان يسمي كلامه ردا على تطرقنا عرضا لذكر الحجاج ومظالمه في مقال لنا سابق.
ولقد كان شيئا رهيبا ان يخالف كاتب في هذا العصر ما اجمع عليه خيار الأمة في عصر الحجاج وبعد عصر الحجاج فيتكلم بهذا الكلام عن رجل يقول عنه خير الدين الزركلي في كتابه (الاعلام): " وكان سفاكا سفاحا باتفاق معظم المؤرخين ".
لقد اتفق على ذلك معظم المؤرخين بنص المؤرخ المعاصر صاحب الأعلام. وطبيعي ان يوجد من له مثل ذهنية كاتب المقال فيشذ عن هؤلاء المؤرخين ويخرج على اجماعهم.
ومن العجيب ان الكاتب ممن يرون الاجماع حجة في الشؤون الكبرى والصغرى ويغمزون بمن لا يأخذ بهذا الاجماع، ولكنه هنا لا يبالي ان يكون شاذا عن هذا الاجماع ما دام هذا الشذوذ يوافق هوى في نفسه!
ان الحسن البصري، وهو من هو في التاريخ الاسلامي، والكاتب اعرف الناس به. ان الحسن البصري هذا يسجد لله شكرا لما مات الحجاج، ويقول: " اللهم كما أمته فامت عنا سنته ".
وان عمر بن عبد العزيز يقول: " الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقرة بمصر، وعثمان بن حيان بالحجاز، امتلأت والله الأرض جورا ".
لا يتمالك الحسن البصري - وهو الشيخ الوقور الرزين، الذي يزن القول والفعل - لا يتمالك نفسه أن يخر ساجدا لله معفرا جبينه بالأرض شكرا لله تعالى على أن أراح الأمة من السفاح السفاك الطاغية، وأنقذها من المجازر البشرية التي كانت تحدث في كل يوم، ومن الجور الفادح الذي كان يحل بها في كل ساعة. ثم يخشى هذا الامام الجليل أن يخلف الحجاج من يسير على سنته، فلا ينسى أن يدعو الله أن يميت سنته كما أماته هو نفسه.
يفعل الحسن البصري هذا الفعل ويقول هذا القول عن الحجاج،. وهو المعاصر له الشاهد على أفاعيله، ثم يأتينا في هذا العصر من يقول: " كان الحجاج عادلا في الحكم فعلا ".
ونقول لهذا القائل: ان الحسن البصري أوثق عندنا وعند غيرنا منك، وهذا أضعف ما يمكن ان نقوله!
ويرى عمر بن عبد العزيز وهو أيضا الشاهد المعاصر - ان الأرض