لنفسك موضعا تنتقل إليه موقرا (1) محترما. فاختار أن يكون تحت الاستظهار من جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه، ففعل به ذلك. وكان حسن السيرة قريبا إلى الناس حسن اللقاء لهم والانبساط معهم، عفيفا عن أموالهم، غير ظالم لهم. فلما قبض عاد أمير الحاج سنقر (2) وعاد أيضا قشتمر " (3).
وقال سبط ابن الجوزي في حوادث سنة 602: " وفيها استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الحسني وخلع عليه خلعة الوزارة:
القميص والدراعة والعمامة وخرج من باب الحجرة فقدم له فرس من خيل الخليفة وبين يديه دواة فيها ألف مثقال ذهب ووراء المهد الأصفر وألوية الحمد وطبول النوبة والكوسات تخفق والعهد منشور بين يديه وجميع أرباب الدولة مشاة بين يديه وضربت الطبول والبوقات له بالرحبة في أوقات الصلوات الثلاث: المغرب والعشاء والفجر. فقال الناس: يا ليت شعرنا ماذا أبقى الخليفة لنفسه ".
وكانت صورة خطاب الوزير ابن المهدي الرسمية " المولى الوزير الأعظم، الصاحب الكبير المعظم، العادل المؤيد المظفر، المجاهد نصير الدين صدر الاسلام، غرس الامام، شرف الأنام عضد الدولة مغيث الأمة، عماد الملك، اختيار بالخلافة المعظمة، مجتبى الأمة المكرمة، تاج الملوك. سيد صدور العالمين ملك وزراء الشرق والغرب غياث الورى نصير الدين أبو الحسن نصر بن مهدي، ظهير أمير المؤمنين ووليه المخلص في طاعته الموثوق به في صحة عقيدته ".
وقال أبو الفضائل محمد بن علي الحموي والعهدة عليه في تاريخه في حوادث سنة 611: " سنة " حادي عشرة وستمائة كان قد تجهز خوارزم شاه إلى العراق وفيها وصلت رسل خوارزم شاه يطلب الدار ببغداد والخطبة وأن يخاطب بمخاطبة السلجوقية، ويقال له في الخطبة (قسيم أمير المؤمنين) فما أجيب إلى ذلك، وأنكر عليه غاية الانكار، سبب عزل الخليفة لوزيره نصير الدين العلوي أنه كان قد سير ثلاثمائة جمل عليها قواصر التمر وأودع كل جمل ألف دينار، فتعرض لها بعض ولاة الخليفة وطلب شيئا من ذلك التمر يأكله، فامتنعوا عليه من ذلك إلا أنه ألح عليهم، فأخذ جملين وفتح قوصرة تمر ففرقها على الجماعة وجد الذهب، ففتح الثانية فوجد كذلك فضبط الجميع وطالع به الخليفة، فأنكر ذلك عليه وعزله ونقله إلى دار الخليفة هو وأولاده بعد أن أخذ جميع الذي كان له فما وجد إلا القليل لأنه كان قد نقله إلى العجم واستوفينا قصته في البيان ".
وهذا الخبر مضطرب عليه سيماء الكذب ويدل على أن هذا المؤرخ كان عاميا بعيدا عن التعقل، ثم إن الخبر أشبه باخبار العوام منه باخبار المؤرخين الاثبات.
ناصيف النصار مرت ترجمته في المجلد العاشر الصفحة 205 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
محاولة محمد علي باشا قهر الدولة العثمانية واكتساح حكمها في بلاد الشام وإقامة حكم مصري عربي على أنقاضه. ونجاحه في ذلك أكثر مما كان يقصد، إذ تعدى في انتصاراته بلاد الشام وتقدم إلى الأناضول حتى بدا كأن انهيار الدولة العثمانية انهيارا كاملا بات ذا وقت محدود. لولا تدخل الإنكليز مع مجموعة من الدول الأوروبية وارغامهم محمد علي على التوقف. وعودة جيوشه المظفرة من حيث أتت.
هذه المحاولة سبقتها أخرى نجحت أول أمرها كل النجاح لولا أمر طارئ كما سنفصله:
دخل السلطان سليم القاهرة منهيا الحكم المملوكي الذي كان قائما في مصر. وخطب باسمه في مساجد القاهرة في 24 كانون الثاني سنة 1517، و خضعت مصر كلها للسيادة العثمانية، وقام عهد جديد افتتح هو أيضا بالمماليك، فإن السلطان غادر مصر في شهر أيلول من العام نفسه موكلا الحكم فيها إلى خير بك، من مماليك السلطان الغوري ونائبه في حلب، وكان تخلى عن سلطانه وانضم إلى السلطان سليم.
وبعد وفاة خير بك سنة 1522 كانت الدولة ترسل لحكم مصر (باشا) عثمانيا. لم يكن ينفرد بالحكم الفعلي بل كان يشاطره المماليك الكثير من شؤونه إلى أن استطاع هؤلاء المماليك السيطرة سيطرة كاملة على البلاد في عهد علي بك الكبير الذي دخل في صراعات عنيفة مع غيره من المماليك إلى أن استطاع الانفراد بالحكم سنة 1763 ولكنه غلب على أمره واضطر إلى الفرار إلى القدس، ثم إلى عكا حيث توطدت الصلات بينه وبين ظاهر العمر الذي ساعده على العودة إلى مصر، ثم انقلبت عليه الأمور ثانية واضطر إلى الفرار وملاقاة ظاهر العمر من جديد، فالعودة إلى مصر سنة 1766.
وهنا حاول علي بك الاستقلال نهائيا في مصر وقطع صلاته بالآستانة والتخلص من السلطة الأسمية التي كانت للدولة على مصر. فطرد الباشا العثماني وامتنع عن دفع الجزية للباب العالي، ثم ضرب النقود باسمه سنة 1768 وأرسل إلى صديقه ظاهر العمر يخبره بكل ذلك.
وكان ظاهر العمر في صراع دائم مع العثمانيين إلى أن استأثر بالحكم في عكا. وهكذا اجتمع للصديقين سيطرة كاملة على بلديهما فتحت لهما آفاق المطامع الواسعة. وإلى جانب ظاهر العمر كان يقيم أمير جبل عامل ناصيف النصار، وكان أول الأمر في خصام مع ظاهر ثم تحالفا على أعدائهما المشتركين. وناصيف نفسه يتمتع باستقلال في جبله لا يقل عن مثيليه في القاهرة وعكا.
وهنا تم التفاهم بين علي بك الكبير وظاهر العمر على توحيد قواهما بأن تزحف قوى مصر إلى بلاد الشام فتنضم إليها قوى عكا فتتألف مجموعة تستطيع اكتساح بلاد الشام جميعها. وتم التفاهم بين ظاهر العمر وحليفه ناصيف النصار على توحيد قواهما في هذا المعترك ومساهمة جبل عامل في قيام الدولة الجديدة.
الواقع أن نصوص هذه الأحداث قليلة، والكثير من الموجود يشير إشارات عابرة إلى احداث ضخام. فنحن لا نعلم تفاصيل الخطة التي اعتزم تنفيذها الحلفاء الثلاثة، ولا تفاصيل ترتيبات التدرج من الكلام إلى الثورة. ولكننا نعلم، نحو سنة 1768، ان جهر ظاهر العمر بمطالب صريحة لدى الباب العالي أن يكون له حكم عكا مدة حياته، ثم لأولاده، وزاد فطالب بحكم الناصرة وطبرية وصفد وبلاد الجليل.