فهؤلاء الأعلام كانوا يجتمعون في مجلس الملك الصالح طلائع بن رزيك يتناشدون الشعر ويتناظرون في بعض المسائل العلمية والأدبية ويستمعون إلى شعره ".
ويقول المقريزي: أن له قصيدة سماها الجوهرة في الرد على القدرية، وأنه صنف كتابا سماه " الاعتماد في الرد على أهل العناد) جمع له الفقهاء وناظرهم عليه، وهو كتاب يبحث في إمامة علي بن أبي طالب والأحاديث النبوية التي وردت فيه.
ظالم بن عمرو أبو الأسود الدؤلي مرت ترجمته في الصفحة 403 من المجلد السابع ونزيد عليها هنا ما يأتي:
قال الدكتور عبد المجيد زراقط:
كان أبو الأسود الدؤلي " من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم وهو كان الأصل في بناء النحو وعقد أصوله ". وعنه يقول الجاحظ: " أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم، مأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء الدهاة والنحويين والحاضري الجواب والبخل والصلع الأشراف والبخر الأشراف ". ونرى في أبي الأسود أيضا صفات تدعو إلى الاكبار والاجلال. يتعلق بالله عن عميق إيمان:
وإذا طلبت من الحوائج حاجة * فادع الاله وأحسن الأعمالا فليعطينك ما تشاء بقدرة * فهو اللطيف لما أراد فعالا إن العباد وشأنهم وأمورهم * بيد الإله يقلب الأحوالا فدع العباد ولا تكن بطلابهم لهجا تضعضع للعباد سؤالا هذا الترفع ينتج عن إيمان وعن اعزاز للنفس يتدبره عقل واع، فهو حين شاخ لم يكن يقعد في البيت وإنما كان يخرج كي يبقى مهابا محترما في منزله وكي يبقى على صلة بالحياة. وما كان يرضى الهبة، قال يوما لصديق أراده أن يهبه فروة:
بعني نسيب ولا تثبني إنني * لا أستثيب ولا أثيب الواثبا ولم يكن ميسور الحال باستمرار، ولعل هذا ما يفسر اتهام الناس إياه بالبخل، والحقيقة أنه كان مقتصدا يتدبر أمره مما يدره عليه رزق كان له، إذ يتحدث عنه صاحب الأغاني كمقتني إبل يساوم في أثمانها. والملاحظ أن أبا الأسود لم يحترف الشعر ولم يمدح لأجل أن يعطى، كما أنه لم يهج برغم أن له من الأجوبة اللاذعة ما يسجل، وبرغم ما يقول عن لسانه:
فإن لساني ليس أهون وقعة * وأصغر آثارا من النحت بالفاس وإن تعرض لأحد بهجاء، فإن ما يقوله مقبول لدرجة أن المهجو يتمثل به. قال أبو الأسود للحصين، في نهاية أبيات عرض فيها رفض الأخير شفاعته:
يصيب وما يدري ويخطي وما يدري * وكيف يكون النوك إلا كذلكا وكان الحصين يتمثل بهذا الشعر عندما يقضي بين الناس (5):
الحق أنه من النادر أن نلتقي بشاعر في العصر الأموي وفي العراق هذه صفاته. ولنقرأ هذا الشعر قاله لصديق له، كان قد حكم عليه بالحق:
ولا تدعني للجور واصبر على التي * بها كنت أقضي للبعيد على أبي إني امرؤ أخشى إلهي وأتقي معادي وقد جربت ما لم تجرب هذا هو أبو الأسود الإنسان، رجل مؤمن تقي عالم، يتدبر أموره بعقل وروية، ويترفع بنفسه عن كل ما يؤذيها. وكان هكذا في شعره، لم يتكسب به، ولم يتسلط به أيضا برغم أنه كان محتاجا لدرجة أن يكسى ثوبا أو ليسدد عنه دين وبرغم أن لسانه ما كان كليلا إنه طراز من الشعراء نادر وإن لم يعرف، في المقام الأول، كشاعر.
ما كان أبو الأسود يمدح وما كان يهجو، وهذه مواضيع في الشعر العربي رئيسية حتى أنها كانت تحدد منزلة الشاعر، وهذا ما لم يأبه له. ولو كان محبا للمال، كما يقولون، لاهتم باستغلال شعره. وما كان ليفعل، وهو الإنسان العالم الذي كان العقل رائده في مجمل تصرفاته، إضافة إلى أنه كان يسترشد الإله وحده في سلوكه.
إذا فيم كان يقول الشعر؟ الواقع أن اطلاعا سريعا على شعر أبي الأسود يفيد أنه كان ينظم الشعر في الأمور اليومية التي كانت تعرض له، وهذا أمر جديد على الشعراء، وفي تأييد مذهبه.
كان يتناول، في شعره، أمور حياته، حتى الصغيرة جدا منها. أراد جاره خداعه في شراء ناقة منه، فقال له: بئست الخلتان فيك: الحرص والخداع وأنشد (6):
يريد وثاق ناقتي ويعيبها يخادعني عنها وثاق بن جابر فقلت: تعلم يا وثاق بأنها عليك حمى أخرى الليالي الغوابر بصرت بها كوماء حوساء جلدة من الموليات الهام حد الظواهر فحاولت خدعي والظنون كواذب * وكم طامع في خدعتي غير ظافر ولم يكن تناوله لهذه الأمور العادية عاديا، بل كان تناول الإنسان المفكر المتبصر الذي يصل، من خلال معالجة القضية اليومية، إلى تعميم يهم الناس جميعا. كان يعرض القضية ويستوفي تفصيلاتها ثم ينتهي بحكم عام يصح أن يتخذ حكمة أو مثلا:
بلغه أن زيادا يوقع به، فقال فيه كثيرا. ومما قاله هذه الأبيات:
نبئت زيادا ظل يشتمني * والقول يكتب عند الله والعمل وقد لقيت زيادا ثم قلت له * وقبل ذلك منا خبت به الرسل حتى م تسرقني في كل مجمعة عرضي، وأنت إذا ما شئت منتفل كل امرئ صائر يوما لشيمته في كل منزلة يبلى بها الرجل أبو الأسود، في هذه الأبيات، إنسان مؤمن بالله، يستوحي تعاليمه في سلوكه وفهمه للأمور، وينظر بعقل لما يجري معه، فيخلص إلى حكمة إنسانية عامة تتحول بالقضية الصغيرة الفردية إلى قضية كبيرة عامة.