المعارف آنذاك محمد فاضل الجمالي. لا تزال الصورة بحوزتي، إذ لم أفز بميدالية أخرى بعد ذلك، وكان علي أن أحتفظ بهذه الصورة حفظا لماء الوجه الرياضي! غير أني لم أكن فخورا بها مع ذلك، فقد كنا، شباب الخمسينات، متمردين وحانقين، لا ندري، في الحقيقة، لمن نوجه ثار غضبنا إن لم يكن لمثل هؤلاء!
في سنة 1953 ظهر العدد الثاني من مجلة (الثقافة الجديدة) فصودر بعد توزيعه في السوق بساعات وجمعت أعداده. كنت قد نشرت فيه أقصوصة (الآخرون)، وقيل بعد أيام، إن رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي سيواجه مجلس النواب العراقي ويشرح لأعضائه سبب إصدار القرار بمنع هذه المجلة!
وقام، فعلا، بهذا العمل ووقف أمام أعضاء المجلس وأخذ يقرأ لهم من مجلة (الثقافة الجديدة) - ذات الغلاف الأخضر كما أتذكر جيدا - مقتطفات من مقال للدكتور إبراهيم كبه، ويبين لهم نواحي الفلسفة الماركسية التي يستند إليها المقال المذكور. كان رئيس الوزراء آنذاك معروفا لنا بأنه يمثل التيار السياسي الجديد المؤيد لأمريكا، الذي كان منافسا للتيار الإنكليزي القديم الذي يقف نوري السعيد على رأسه. ولعل هذه المبادرة من رئيس الوزراء كانت لإظهار المستوى الرفيع الذي يريد أن يبدو به في ممارسته للديمقراطية.
خطر لي وأنا أقرأ في الصحف تفاصيل هذه التمثيلية، بأن من الأكيد أن رئيس الوزراء لن يهتم بقراءة أقصوصتي وتحليلها وفهم أبعاد ما تعبر عنه، فقد كانوا جميعا، غير مكترثين بالمجرى الخطير المرعب الذي كان يسري بصمت تحت أقدامهم والذي كان الأدب وحده يشير إليه ويرصد مسراه.
وكان الشيخ إذن، ذو السنوات الأربع والتسعين، منحنيا على عناوين الكتب، يريد، معاندا بصره الضعيف، أن يتبين فحواها وأسماء مؤلفيها. لم تكن الحياة رفيقة بهذا الإنسان دائما، ففي سنة 1958 أنزله الثوار من عليائه وسجنوه، وعومل بقسوة وأهين علنا ثم أنهوا، بغوغائية لا مثيل لها، محاكمته بالحكم عليه بالإعدام مرات وبالسجن مئات السنين. كانوا مصرين بشكل مشبوه، على جعل أنفسهم وبلدهم المسكين، أضحوكة للعالم.
لم ينالوا من الجمالي مع ذلك، وعفي عنه فسافر ولقي الترحاب في بلده الثاني الأمين... تونس. وكم كانت دهشتي كبيرة، قبل ست سنوات، حين قرأت لهذا الرجل المسن مقالا ملتهبا يدين فيه الأمم المتحدة ومن ورائها أميركا لما أصدرته من قرارات لا شرعية بحق العراق والعراقيين. كنت مندهشا بسبب أن ذلك المقال لا يمثل ولا يعبر عن توجهاته السابقة حين كان مشاركا في الحكم في الخمسينات، وتبادر إلى ذهني أنه قد يكون مجاملا لبعض الجهات السياسية، إلا أن استمراره، وإصراره على الكتابة وعلى إدانة الولايات المتحدة بنفس النسق الأول يجعل من المتعذر تصديق هذا الرأي.
الرجل، إذن، كان مخلصا وصادقا في غضبه وفي تعريته للقرارات القاسية واللا إنسانية التي طاولت شعبا عريقا ذا حضارات متعددة قدمت الكثير من أجل رفعة البشر وحفظ كرامتهم، ولعل هذا الشيخ الذي جاوز التسعين وهو يجهد نظره منحنيا علي الكتب المطبوعة في العراق، كان يبحث عن دليل آخر يضيفه إلى الأدلة الكثيرة المتجمعة لديه، ليثبت أن شعب العراق شعب مبدع، صلد، وأن من الواجب الوقوف إلى جانبه على الدوام والإعلان عن حقيقته الرائعة على الملأ ". (انتهى).
وكتب عنه فائق الشيخ علي ما يلي:
في 1903 حين ولد محمد فاضل الجمالي، في مدينة الكاظمية قرب بغداد، كان العثمانيون يشيعون سياسة " التتريك والتجهيل " معا في العراق، فشهدت الكاظمية حركة تزعمها الشيخ مهدي الخالصي، ودعا إلى التنوير.
وساهم في قيادة ثورة العشرين، وحث الناس على التنبه واليقظة لما يحيط بهم من مخاطر، مستخدما منبره العلمي في " مدرسة الإمام الخالصي " في الكاظمية، والتي درس فيها الجمالي، للترويج لأفكاره ودعواته. وعندما قررت الحكومة العراقية عام 1922 إرسال أول بعثة من الطلبة العراقيين للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت كان فاضل الجمالي أحد أفرادها.
وفي بيروت وجد الطلبة العراقيون أنفسهم بحاجة إلى تأسيس جمعية عراقية تجمعهم وتلم شملهم في إطار الأخوة العراقية والرابطة الوطنية يعولون عليها أمر تنوير الناس وتنبيه الأمة إلى أهمية النهضة العلمية والأدبية الحديثة باعتبارهم النخبة المثقفة والفئة المتنورة في المجتمع العراقي.
ولما توسموا في الجمالي أخلاقه العالية وتنوع ثقافته وسعة اطلاعه، فضلا عن بروز ملامح القيادة المبكرة لديه، أو عزوا إليه في 22 / 10 / 1924 ترؤس الاجتماع لانتخاب الهيئة الإدارية الأولى لسنة 1924. وفي يوم الجمعة في 5 حزيران (يونيو) 1925 عقدت الجمعية العراقية اجتماعها الأخير لتلك السنة وانتخب الجمالي رئيسا لها، بحسب تأريخ أحمد سوسة. أما أعضاء الجمعية فلعبوا أدوارا سياسية وثقافية وغيرها في العراق عند عودتهم إليه بعد تخرجهم في الجامعة الأميركية في بيروت، وتبوأوا مراكز قيادية في الدولة العراقية، إذ يكفي أن الجمالي نفسه شكل حكومتين في العهد الملكي ورأس البرلمان مرتين أيضا وتولى حقيبة الخارجية ثماني مرات، ما يعني أن أعضاء الجمعية حققوا الأهداف التي من أجلها أسسوا جمعيتهم.
لقد شكل الجمالي وزارته الأولى بعد استقالة وزارة جميل المدفعي السابعة وليس خلفا لنوري السعيد كما زعم توفيق السويدي في كتابه. واستمرت من 17 أيلول (سبتمبر) 1953 إلى 8 آذار (مارس) 1954. ووزارته الثانية كانت من 8 آذار 1954 إلى 19 نيسان (إبريل) 1954. وقد توجه إلى إصلاح الأوضاع الداخلية ولم يكن بحاجة إلى الشهرة لأن العالم والعراقيين عرفوه منذ كان يقف خطيبا مفوها في المحافل الدولية يساند الدول الفقيرة ويدافع عن مصالح العراق. وإذا ظل خصومه ينظرون إليه بوصفه ربط العراق بأحلاف ومواثيق دولية " استعمارية "، فإن الدراسة الموضوعية لتلك الأحداث تبدد الكثير من الأوهام وتكشف الكثير من الأكاذيب، كما ذكر لي الجمالي قبل وفاته ببضعة أشهر.
وفي عهد قاد ثورة بيضاء ضد التخلف والمرض والفقر، أعداء الشعوب الثلاثة، وانطلق مجلس الإعمار بمشاريعه وخططه الإصلاحية في البناء والإعمار، وحمل على المحسوبية والمنسوبية وضخ دماء جديدة من الوزراء الشباب في الحكومة العراقية لا يزال ثلاثة منهم على قيد الحياة ويقيمون في لندن (عبد الكريم الأزري، عبد الغني الدلي، عبد الأمير علاوي)، وأزال مظاهر العسف والتسلط في الدولة العراقية، وألغى الأحكام العرفية التي كانت تطبق في البلاد منذ عهد وزارة نور الدين محمد في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، وسمح للأحزاب بمعاودة نشاطاتها السياسية، وأفسح في المجال أمام الإعلام وحرية الصحافة. وبالرغم من كل تلك الإنجازات وقصر عمر الحكومة، لم تتعرض وزارة في حياة الدولة العراقية وقتذاك إلى نكبات وهزات كالتي تعرضت لها وزارة الجمالي، ففي عهدها اجتاح العراق أخطر فيضان عرفه تاريخ الحديث. حيث هدد سكان بغداد بالرعب الحقيقي، دافعا بحكومة الجمالي الثانية إلى السعي جديا لإنشاء السدود وفتح القنوات.
ولم ينتم الدكتور الجمالي في حياته إلى أي حزب سياسي ولم يسع إلى تأسيس أي حزب، في وقت كان العراق يضج بمختلف الأحزاب السياسية والاتجاهات المتعاكسة. كما أن ظروف ومتطلبات العمل السياسي كانت تملي على المسؤولين التحزب أو التحالف مع هذه الجهة أو تلك - في أقل تقدير -