بكل شعوره وكل جوارحه، متلهفا لمعرفة الخبر الأخير ولما يبلغ اذنيه نبأ الفوز ينطلق مزهوا متغنيا بالبطولات:
يوم عريض بالفخار طويل * لا تنقضي غرر له وحجول مسحت ثغور الشام أدمعها به * ولقد تبل التراب وهي همول قل للدمستق مورد الجمع الذي * ما أصدرته له قنا ونصول سل رهط (منويل) وأنت غررته * في أي معركة ثوى منويل منع الجنود من القفول رواجعا * تبا له بالمنديات قفول وبعثت بالأسطول يحمل عدة * فأثابنا بالعدة الأسطول أدى إلينا ما جمعت موفرا * ثم انثنى بأليم وهو جفول ومضى يخف على الجنائب حمله * ولقد يرى بالجيش وهو ثقيل لم يتركوا فيها بجعجاع الردى * إلا النجيع على النجيع يسيل نحرت بها العرب الأعاجم أنها * رمح أمق ولهذم مصقول ثم ينثني إلى مدبر ذلك كله وقائد النصر ومعد الأسطول ومهيئ الجيش، إلى المعز:
لا تعدمنك أمة أغنيتها * وهديتها تجلو العمى وتنيل وتتكرر معارك الأسطول العربي وتتكرر انتصاراته فيحرص الشاعر على الإشادة بالأسطول:
وسفن إذا ما خاضت اليم زاخرا * جلت عن بياض الصبح وهي غرابيب تشب لها حمراء قان أوارها * سبوح لها ذيل على الماء مسحوب وتلتقي جيوش الروم وأساطيلهم بجيوش الفاطميين البرية وأساطيلهم أكثر من مرة وتقع المعارك البرية والبحرية في أوقات متقاربة وينتصر الفاطميون وتحمى بانتصاراتهم ديار الإسلام والعروبة فيقول ابن هاني مشيرا إلى أن الروم كانوا قبل اليوم سادة البحر المتوسط، تجول فيه أساطيلهم وتصول بلا رقيب ولا منافس، وإلى أن جيوشهم البرية كانت كذلك:
لو كان للروم علم بالذي لقيت * ما هنئت أم بطريق بمولود القى " الدمستق " بالاعلام حين رأى * ما أنزل الله من نصر وتأييد فقال له حال من دون الخليج قنا * سمر وأذرع ابطال مناجيد ثم يخاطب المعز:
ذموا قناك وقد ثارت أسنتها * فما تركن وريدا غير مورود حميته البر والبحر الفضاء معا * فما يمر باب غير مسدود قد كانت الروم محذورا كتائبها * تدني البلاد على شحط وتبعيد وشاغبوا إليم ألفي حجة كملا * وهم فوارس قارياته السود فاليوم قد طمست فيه مسالكهم * من كل لاحب نهج الفلك مقصود هيهات راعهم في كل معترك * ملك الملوك وصنديد الصناديد ابن هاني إشبيلي المولد أندلسي النشأة فقد ولد سنة 320 أو 326 في قرية سكون من قرى مدينة إشبيلية وكان صديقا لوالي إشبيلية مقربا إليه. وكان الحكام في الأندلس لا يحبون الدولة الجديدة التي أخذت تشب ويقوى ساعدها في إفريقيا فأخذوا يعملون على زعزعتها. ولم يتورعوا عن التحالف مع الأجنبي للقضاء عليها (1).
وكان هوى ابن هاني مع الفاطميين وقلبه متجها إليهم، وكان كغيره يرى في شباب دولتهم ما يمكن أن يعيد الشباب إلى الوطن العربي. ويبدو أنه كان لا يتورع عن الجهر بارائه والدعوة إليها، مما لم يكن يخفى على الحاكمين، فدبروا له تهمة الأخذ بالفلسفة، وهي تهمة كانت هناك في ذلك الوقت كافية لاستحلال الدماء. ويبدو أن صديقه الوالي الإشبيلي قد أحس بما يدبر للشاعر في الخفاء فنصحه بترك إشبيلية فاخذ الشاعر بالنصيحة واتجه إلى العدوة الإفريقية حيث اتصل في المسيلة بجعفر بن علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسية والي المسيلة (2) فلم يجد جعفر هدية يقدمها لخليفته أثمن من هذا الشاعر، فأوفده إليه. وكان المعز في أمس الحاجة لمثل ابن هاني ليكون لسانه الناطق في تطور دولته وتقدمها، وليكون وسيلته الاعلامية، وإذاعته القوية، فاحتفى به وقربه إليه وظل ابن هاني يسجل انتصارات المعز ويعدد وقائعه إلى أن خطا المعز خطوته الحاسمة فأرسل قائده جوهرا لضم مصر إلى خلافته ودخل جوهر الإسكندرية متقدما إلى العاصمة فأذاع ابن هاني النبأ بهذا الشكل:
يقول بنو العباس هل فتحت مصر؟ * فقل لبني العباس قد قضى الأمر وقد جاوز الإسكندرية جوهر * تسير به البشرى ويقدمه النصر ويتهيأ المعز للذهاب إلى مصر وانشاء عاصمته الجديدة (القاهرة) ثم يمضي إليها على أن يلحقه شاعره ليكون هناك كما كان هنا المذيع البليغ. وكان حكام الأندلس متابعين لخطر الشاعر عالمين بما فعله شعره للدولة المتقدمة وما يمكن أن يفعله بعد أن تطورت من حال إلى حال. ورأوا في قلمه خطرا لا يقل مضاء عن السيف فقرروا حرمان الدولة الحديثة منه فأرسلوا إليه من اغتاله وهو في الطريق إلى مصر عند برقة سنة 362 وهكذا انتهى هذا الشاعر الفريد نهاية اليمة غير متجاوز مراحل الشباب. ولا شك أنه لو قدر له الوصول إلى مصر لترك في احداثها وحياتها وطبيعتها الشئ الكثير الثمين.
محمد يوسف مقلد ولد في تبنين (جبل عامل) سنة 1913 م وتوفي ببيروت سنة 1965 م.
نشأ فقيرا فهاجر سنة 1937 م إلى السنغال في إفريقيا الغربية مع قوافل المهاجرين إليها سعيا وراء الثروة، ولكنه عاد منها بعد سنين كما ذهب.
وهو في هذه الأبيات يصف ارتحاله بعد أن باع أبوه كرم التين ليؤمن له نفقات السفر: