عشرين ألف آخرين ستجد؟...
هذا مثال واحد عن معاملة دولة (القومية العربية) لغير العرب الذين تحكمهم وهذه هي المعاملة التي يتبجح بها الكاتب.
ولن نتعرض إلى ذكر المهانة اليومية التي كان يعيش فيها الموالي، مثل انهم كانوا ينادونهم بألقابهم لا بأسمائهم كما ينادون الرقيق، وإذا أرادوا الزواج فلم يكن بد من الرجوع إلى (السادة) الذين كان لهم حق المعارضة في تلك العقود، وكان مفروضا عليهم وحدهم ضريبة الرؤوس. ويفهم مما ذكره الطبري انهم في حال الحرب لم يكن مسموحا لهم ان يكون منهم أحد في صفوف الفرسان، بل كانوا دائما من المشاة...
ما رأى الكاتب - وهو اليساري العتيق كما قلنا - ما رأيه لو أن الروس في حروبهم للنازية ساقوا شبان القوميات التابعة لهم إلى حرب الألمان دون ان يدفعوا لهم (روبلا) واحدا وأجبروهم على أن يتكفلوا بأنفسهم اطعام أنفسهم خلال القتال؟؟
ثم ما رأيه لو أن الروس اعتبروا أبناء تلك القوميات من (الموالي) مهما أخلصوا في شيوعيتهم، واعتبروا أنفسهم وحدهم السادة؟؟.
وما رأيه حين فعلوا العكس فاعتبروا كل شيوعي من السادة لو كان غير روسي، فسلموا حكم القوميات الأخرى للشيوعيين منها؟.
ثم ما رأيه لو أن الذي خلف لينين في حكم الاتحاد السوفيتي كان من أعنف من قاوموا ثورة أكتوبر وقاوموا لينين بالذات ثم لم يترك من ثورة أكتوبر الا اسمها وعمد إلى تهديم كل ما اقامته الثورة من قواعد ومنها اعتبار كل الشيوعيين من (السادة) لا من (الموالي) مهما اختلفت جنسياتهم؟...
المتعصبون الحرفيون يسمي الكاتب الذين قاوموا الانقلاب على شعارات وتشريعات الدولة العربية حاملة الدعوة الاسلامية العالمية، يسميهم (رجال الدين المتعصبين والحرفيين والجامدين).
ونحن نسأله وهو كما قلنا ونكرر القول للمرة الثالثة اليساري العتيق ألم يكن من أهدافه هو نفسه ان يثور على النظام القائم، مع أن هذا النظام له دستوره وقوانينه وأنظمته التي يتساوى فيها الناس جميعا، ولم يكن فيه (المحافظ بالوكالة) يأمر بقتل ثمانية آلاف رجل بلا محاكمة ولم يكن هذا النظام يسوق إلى الجندية والحرب عشرات الألوف دون ان يدفع لهم ليرة واحدة ودون ان يقدم لهم الطعام، وكل عيوب هذا النظام انه يختلف مع الكاتب في النظرة الاقتصادية. ومع ذلك كان الكاتب يدعو للثورة على هذا النظام ويعمل لهذه الثورة ولا يرى نفسه (من رجال الدين المتعصبين والحرفيين والجامدين).
وهل من هؤلاء حتى الشعراء المداحون المتملقون الذين لم يستطيعوا مع ذلك ان يسكتوا على ما ينال الشعب من حرمان واهتضام، فنرى مثلا الراعي النميري وهو ممن لا يتهمون في ولائهم لدولة (القومية العربية)، نراه يضطر للخروج على التملق، ليشكوا ما ينال الرعية من جباة الضرائب الذين ينزلون بها كل صنوف الجور:
قطعوا اليمامة يطردون كأنهم * قوم أصابوا ظالمين قتيلا واتاهم يحيى فشد عليهم * عقدا يراه المسلمون ثقيلا كتبا تركن غنيهم ذا عيلة بعد الغنى وفقيرهم مهزولا ثم يكرز وصف ما ينزل بالشعب في قصيدة أخرى:
اما الفقير الذي كانت حلوبته * رفق العيال فلم يترك له سبد واختل ذو المال والمثرون قد بقيت * على التلاتل من أموالهم عقد (1) فهل هذا الشاعر الذي يعطينا صورة عن حال الشعب الهضيم في ظل دولة (القومية العربية) هو الاخر من (رجال الدين المتعصبين والحرفيين والجامدين).
وهل بلغت الحال بالشعب في عصر الكاتب إلى حال الشعب في عهد الراعي النميري التي رأينا بعض وصفها في شعره حين كان يدعو الأول إلى الثورة على النظام؟؟.
الشيعة يحمون العالم الاسلامي يردون البيزنطيين عن بلاد الشام ويذودونهم عن القدس إذا كان العاهل البيزنطي (هرقل) قد وقف بعد معركة اليرموك وما تلاها - إذا كان قد وقف فوق جبال طوروس وتطلع إلى سوريا التي تمزقت فيها جيوشه، وتنهد تنهد الاسيف وقال: وداعا يا سوريا، وداعا لا لقاء بعده...
إذا كان هرقل قد ايس من العودة إلى سوريا فان الذين تلوه بعد ذلك بقرون لم ييأسوا منها وظلوا متشبثين بها لا سيما بعد ان انفرط نظام الدولة الكبرى، دولة أعدائهم، وعادت دولا مقسمة تتنازع وتتقاتل، في حين كانوا هم قد تقووا واستفحل امر بعضهم استفحالا يرى فيه نفسه جديرا بالعودة إلى سوريا تحت رايات الظفر المؤزر.
فقد جاء قسطنطين ليكابينوس، ثم تلاه الاخوان برداس فوكاس أولا ثم نقفور فوكاس، وكل من هؤلاء الثلاثة كان يجمع إلى المطامح البعيدة، القوة التي يرتكز عليها لتحقيق هذه المطامح، وفي رأس هذه المطامح: أعظمها وهو العودة إلى بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) واسترداد السيادة البيزنطية عليها.
ولكن تشاء المقادير ان تخلق من ذلك التمزق العربي تكتلين، يتماسك كل منهما تماسكا محكما، ويقود كلا منهما قائد يجمع إلى الاخلاص، الكفاءة التي تعوز مواجهة المطامح البيزنطية.
فقد قامت في شمال إفريقيا دولة الفاطميين، وقضت هناك على الكيانات الانفصالية وجمعتها كلها في كيان واحد متلاحم. كما قامت في الوقت نفسه في شمال بلاد الشام دولة الحمدانيين (2)، وضمت إليها ما استطاعت ضمه من الأشلاء ومضت تشق طريقها شجاعة طماحة.
فوقت كان يتعاقب على حكم بيزنطية من عددناهم من قبل، ووقت كان قسطنطين ليكابينوس يعربد مهددا متوعدا، كان يقوم على رأس الدولة الحمدانية: سيف الدولة فلا ينتظر تقدم عدوه اليه، بل يتحداه في عقر داره.
ثم يأتي برداس فوكاس ويقود الجيوش مقتحما الأرض العربية على سيف الدولة، ويصمد له سيف الدولة فلا ينال برداس منه منالا، بل يفقد في كل معركة العدد الخطير من جيشه وقواده، حتى يحيق به المصير الرهيب في معركة