شعار " اتحاد فيدرالي، صداقة سوفياتية "، انتصارا كبيرا على حاملي شعار " وحدة وحدة عربية، لا شرقية ولا غربية "، ولإظهار القوة والسيطرة على الشارع السياسي حرصوا على ألا يرتفع صوت يشوش الأفكار أو يلفت الأنظار إلى الإرهاب الفكري الذي أخذ يمارس ضد قطاعات وتيارات يحتويها نسيج الشعب العراقي. فقد تصدت قوى كبيرة حشدها الحزب الشيوعي يوم 12 / 9 / 1958 (يوم إقالة عارف من منصبه العسكري) لموكب ديني اعتاد شباب حزب الاستقلال في النجف على تنظيمه سنويا بمناسبة ذكرى وفاة الرسول الأعظم (ص) ولأن شعارات هذا الموكب مغايرة فإنها نشاز ويجب ألا تسمع، فتصدت الجموع التي حشدها الحزب الشيوعي من جميع أنحاء العراق لهذه المناسبة وهجمت على هذا الموكب المسالم وفرقته باستعمال الرصاص، وسقط جرحى ثم هجمت الجماهير على مكتبي للفتك بمن فيه بحجة أنهم قوميون مزيفون ثم لفقت لي ولمجموعة من الأساتذة والطلبة والعمال من شهاب حزب الاستقلال تهمة حمل السلاح واستعماله في ظل الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، فاعتقلت مع أربعين آخرين من طلاب وعمال وأساتذة في معسكر أبو غريب مدة تزيد على الأربعة أشهر، وكل جريمتنا أننا حاولنا استعمال حقنا في حرية التعبير.
ثم تداعت الأحداث وتسارعت كما هو مخطط من أجل السيطرة على الشارع السياسي فكان قطار الموت إلى الموصل وفشل ثورة الشواف في 8 / 3 / 1959 ومحكمة القصاب التي طالت حتى النساء، إلى مجزرة كركوك. وقد لعبت محكمة المهداوي ونائبها العام ماجد محمد أمين دورا خطيرا في بلبلة الأفكار وإشاعة الفوضى والتحريض على القتل وتصفية الخصوم " العملاء "، فكانت عبارة عن ساحة تلقى فيها الخطب والقصائد مدحا أو ذما أو تحريفا، ما طال حتى رؤساء دول أجنبية وعلى رأسهم جمال عبد الناصر " الطامع بنفطنا وبلحنا ". ورغم تهيئة الأجواء ورغم طرح شعار إشراك الحزب الشيوعي في الحكم الذي راحت تردده مسيرات شعبية كبيرة، وبعد أن تم الإجهاز على كل التيارات المعادية وخلو الساحة منها. أخرج قاسم من جعبته لعبة جديدة ممثلة بحزب شيوعي جديد شكله داوود الصائغ وأجازه قاسم، فكان لابد للملهاة من نهاية بعد أداء الأدوار، وكانت المحصلة المحسوبة أو غير المحسوبة أن تفككت عرى الجبهة الوطنية، وحصل احتراب ودماء، وصار حلفاء الأمس أعداء اليوم، وانفرد عبد الكريم قاسم بالحكم زعيما أوحد وخابت آمال الشعب بوليده الجديد. وبالرجوع إلى الوثائق البريطانية التي أطلقت أخيرا بعد مرور ثلاثين عاما على تلك الفترة نقرأ من خلال الكتب المتبادلة بين السفيرين الأميركي والبريطاني في بغداد أن السفير الأميركي كان متخوفا من تنامي قوة المد الشيوعي في العراق وخطره على مصالحهم، وكان السفير البريطاني يطمئنه ويدعوه إلى عدم الخوف من الشيوعيين لأن الخوف هو من انتصار التيار القومي الموالي لعبد الناصر.
لقد كانت ثورة يمكن أن تحقق للعراق والأمة العربية الكثير من المكاسب والانتصارات لولا تغلب عقدة البديل والشعور بالفوقية والأنا والتهوين من شأن الخصوم وعدم فهم قراءة التاريخ والجغرافيا.
لكن هل جاءت ثورة 8 شباط (فبراير) 1963 البعثية تصحيحا لمسيرة 14 تموز؟
أبدا. هكذا قيل أول الأمر وأعلن، لكن طغى عليها طابع الانتقام من الشيوعيين أولا ثم من القوميين ثانيا ثم انقسمت على نفسها بين يسار ويمين وحول من الذي يجب أن تكون له الوصاية أو القوامة على الشعب العراقي.
وهنا دخل عبد السلام عارف واهتبل الفرصة واستولى على الحكم، وكأن الرجل استرد حقه المغتصب وسمى نفسه " بطل الثورات الثلاث 14 تموز و 8 شباط و 18 تشرين الثاني ". ومع الأيام تلاشت وأمحت ملامح 14 تموز. فقد طواها الزمن وظلت مجرد ذكرى. (انتهى).
وزارة الجمالي وكتب أحمد مختار بابان الذي كان رئيسا للديوان الملكي في مذكراته عن وزارة فاضل الجمالي ما يلي:
ألف الدكتور محمد فاضل الجمالي أول وزارة له، وفي الواقع كانت هي أيضا أول وزارة تؤلف في عهد الملك فيصل الثاني إذا استثنينا وزارة جميل المدفعي السابعة التي ألفها في السابع من أيار 1953، وهي كانت استمرارا لوزارته السابقة التي اقتضى تبوأ الملك فيصل الثاني استقالتها بموجب الدستور.
أتصور أن العرش كان يفضل في ذلك الوقت أن يكون رئيس الوزراء شيعيا، وهذا أدى دوره في اختيار الدكتور الجمالي، لأن بعض الناس كانوا ينتقدون عدم تكليف زعما ء الشيعة بتأليف الوزارات العراقية المتعاقبة إلا ما ندر.
ولكن بغض النظر عن كل ذلك فإن العرش كان مقتنعا تماما بشخصية الدكتور الجمالي لشخصيته لا بسبب انتمائه الطائفي، وكان الملك والأمير كلاهما يقدرانه، ويرغبان في أن يكون هو رئيس الوزراء المقبل بعد استقالة المدفعي. وكنت أحسن أن الأمير عبد الإله يرغب في أن يعرف الملك فيصل الدكتور الجمالي عن قرب لأنه، أي الملك، كان لا يزال شابا، غير ملم بأمور السياسة، وغير متدرب على مسؤوليات الحكم. إن الدكتور الجمالي كان طيب القلب، حسن النية، مثقفا ثقافة عالية، وعالما بنفس الوقت، هذا الذي لمسته منه بسبب علاقتي الشخصية به، وعملي معه في المسؤولية، وأنه كان يفضل بطبعه أن يكون رئيسا للجامعة أكثر من أي منصب آخر، وأستطيع أن أقول عنه بأنه كان ديموقراطيا أصيلا، مؤمنا، متشبعا بقيمها بسبب ثقافته، ودراسته.
جاء الدكتور فاضل الجمالي إلى الحكم في بلد ملئ بالصعوبات، والمشكلات، وأراد مخلصا أن يبذل كل ما في وسعه من أجل وضع حلول عملية للأمور تلك، وبالاستناد إلى قناعاته الديموقراطية، فإنه أعطى الحرية للصحافة مثلا، فبدأت الجرائد تكتب، وتنتقد بأسلوب تجاوز ما عهده العراقيون من قبل، ودبت الحياة في نشاط الأحزاب بصورة واضحة، وألغيت الرقابة على المطبوعات، وأعيدت جميع الطلاب المفصولين بسبب أحداث سنة 1952 إلى مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم، وألغت وزارته الأحكام العرفية التي أعلنت في عهد وزارة نور الدين محمود، ولم تلغها وزارتا جميل المدفعي مع العلم أنهما تزامنتا مع انتقال العرش إلى الملك فيصل الثاني، فكان من المفروض إلغاءهما بهذه المناسبة.
وكان الدكتور فاضل الجمالي يتحمل الانتقادات، ويعقد بين الحين والآخر مؤتمرات صحفية على الطريقة الأميركية، هذا الذي لم يفهمه الكثيرون، ولم يقدروه حق قدره لأنهم لم يعهدوه من قبل، فمعظم ما قام به الجمالي كان شيئا جديدا، وبادرة جديدة لم يألفها العراق، بل إنها لم تكن مقبولة لدى طبقات معينة.
في رأيي كان على الدكتور فاضل الجمالي، الذي تولى الحكم لأول مرة، أن يأخذ بالحسبان كل أوضاع السياسة الداخلية، وكذلك التقاليد والعادات والأفكار السائدة على الأقل إلى إن يثبت مركزه في الحكم، فلا يكشف عن كل أوراقه بالشكل الذي أدى إلى ظهور طبقة قوية معارضة له. ظهرت بوادر المعارضة في مجلس النواب، فإن المجلس كان مجلس نوري السعيد، وكان من