والذي حصل ان أحد الضباط انفعل ولم يسيطر على أعصابه ففتح نيران رشاشته على الملك وأفراد عائلته بشكل مباغت وأرداهم قتلى أمام ذهول الحاضرين من الضباط، بعد أن أبدى الملك وخاله عبد الإله الاستعداد لمغادرة العراق... وقد عاش هذا الضابط في كابوس متصل نغص عليه حياته، ثم أصيب بالصرع وأنهى حياته منتحرا. ثم أن الشعب العراقي قد حزن على مصرع الملك الشاب فعلا.
أما أنا فكنت كمحام أزاول المهنة في مدينة النجف، وكنت مسؤول فرع حزب الاستقلال فيها ومقرر فرع قيادة الجبهة الوطنية وعضو ارتباط مع قيادة الجبهة في بغداد. وجبهة الاتحاد الوطني (الجبهة الوطنية) التي ضمت الأحزاب السياسية العراقية العلنية والتي كانت تشكلت عام 1957، بعد أن خاضت نضالا مشتركا ضد (حكومة نوري السعيد) إبان العدوان الثلاثي على مصر في 1956.
وكنت قبيل الثورة في بغداد وكانت الأجواء السياسية ملبدة وغير طبيعية، وتنذر بحدوث شئ ما. فالإشاعات كثيرة، فطلب مني سرعة العودة إلى النجف.
وفي اليوم الثاني لقيام الثورة سافرت إلى بغداد وفي وزارة الدفاع التقيت بمحمد صديق شنشل وزير الإرشاد في حكومة الثورة وممثل حزب الاستقلال، كما التقيت عسكريين ومدنيين كانت تعج بهم وزارة الدفاع.
وكان الجميع وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم في حالة ارتباك وقلق واضحين وذلك لهرب نوري السعيد (رئيس الوزراء) وما يمثل هروبه من مخاطر تهدد الثورة. كما كانت أخبار الحريق الهائل الذي شب في مصافي النفط في بغداد من جراء عمل تخريبي، تصل إلى المجتمعين في وزارة الدفاع فتزيد من حرارة الموقف واضطراب الأعصاب. عدت إلى النجف مزودا بالتوجيهات العامة مع حرية التصرف بعد أن عثر على نوري السعيد ولقي نهايته المعروفة. وبالنسبة إلى ضرورة الثورة يختلف الجواب باختلاف وجهات النظر حول تقييم المشاكل التي يجأر بها العراقيون يومئذ.
والوضع في العراق اختلف عنه في مصر ففي مصر وجد تنظيم واحد للضباط تولى القيادة وبناء الخلايا في مختلف الصفوف، أما في العراق فكان أكثر من تنظيم للضباط يعمل في وقت واحد، ولضمان جدية العمل ارتؤي أن تتوحد التنظيمات في قيادة واحدة بعد أن خرج من خرج وجمد نشاطه من جمد، لذا نجد أسماء تدخل ضمن القيادة (اللجنة العليا للضباط الأحرار) وأسماء تخرج منها كما جاء في الكتب التي ألفها بعض أعضاء القيادة.
وكذلك اختلف العدد، يزيد هنا وينقص هناك لنفس السبب، وقد يكون للأمزجة دخل.
وقد حرصت اللجنة العليا للضباط على عدم كتابة محاضر لجلساتها أو ترك أوراق خوفا من انكشاف أمرها، ولكن من خلال ما كتب بعضهم أو سمعته من البعض الآخر، عرفت أنهم اتفقوا على مبادئ أساسية وأهداف رئيسية تبحث في طبيعة النظام وشكل الحكم بعد الثورة، وذلك بالعودة إلى الشعب العراقي (بعد فترة انتقال) فتتشكل الأحزاب الوطنية بصحافتها الحرة وتجري الانتخابات للبرلمان ويسلم الحكم إلى الشعب (الحكم مدني)، حتى أن بعضهم قال أنهم اتفقوا (كأعضاء لجنة عليا) على عدم قبول أي منصب بعد نجاح الثورة. وأن تترك كل الأمور للشعب العراقي ولقواه وأحزابه الوطنية.
ولكنهم اتفقوا على قيام مجلس لقيادة الثورة (يضم أعضاء اللجنة العليا) جريا على خطى ثورة يوليو المصرية. هذا من حيث الكلام. أما من حيث الواقع والتطبيق فقد كان على النقيض تماما.
أما بالنسبة إلى الخلاف بين رجالات الثورة والذي سريعا ما دب، فالمسؤولية عنه، في المحصلة النهائية، يتحملها الجميع، كما طالت تبعاته الجميع أيضا، ولكن تظل الأنصبة تختلف كل حسب حجم دوره وإسهامه.
وقد اعتقد أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قد سرقا ثورة 14 تموز، ذلك أنهما لم يبلغا بقية الأعضاء بساعة الصفر ووزعا خطة الثورة والأوامر والتعليمات على جماعتهما فقط وحجبا الخبر عن بقية التنظيم، وكانت النتيجة أنهما اقتسما المناصب الأساسية بعد نجاح الثورة: عبد الكريم قاسم رئيسا للوزراء، عبد السلام عارف نائبا لرئيس الوزراء، عبد الكريم قاسم قائدا عاما للقوات المسلحة، عبد السلام عارف نائبا للقائد العام للقوات المسلحة، عبد الكريم قاسم وزيرا للدفاع، وعبد السلام عارف وزيرا للداخلية بل إنهما اتفقا على عدم قيام مجلس قيادة الثورة كما كان مقررا من قبل اللجنة العليا للضباط. وامتصاصا لسخط زملائهما من أعضاء اللجنة العليا عهدا إلى إسناد مناصب لبعضهم، فعين العميد الركن ناجي طالب (عضو اللجنة العليا) وزيرا للشؤون الاجتماعية، وعين العميد الركن (عضو اللجنة العليا) محي الدين عبد الحميد وزيرا للمعارف، وعين العقيد الركن (عضو اللجنة العليا) عبد الوهاب الأمين ملحقا عسكريا في القاهرة، وعين العقيد المتقاعد رجب عبد المجيد (عضو اللجنة العليا) مديرا عاما في وزارة الإعمار، وعين العقيد المتقاعد رفعت الحاج سري مديرا للاستخبارات العسكرية، كما عين بقية الأعضاء في مناصب عسكرية ثانوية، فيما أشركت الجبهة الوطنية في الحكم من خلال ممثليها كوزراء.
وأصبح لمجلس الوزراء الذي يرأسه قاسم ونائبه عارف، في ظل عدم قيام مجلس قيادة الثورة، سلطات واسعة إذ بيده السلطتان التنفيذية والتشريعية، ولم يكن لمجلس السيادة المتشكل من ثلاثة أعضاء صلاحيات وكانت اختصاصاته شرفية وبروتوكولية.
والحقيقة أن الذي سهل على الحزب الشيوعي مهمته في التفرد وشجعه على السير في خطته التي اختطها، التصرفات غير المحسوبة التي كانت تصدر عن عبد السلام عارف. فالخطب التي كان يرتجلها أثناء تجواله في المدن والمحافظات أثارت الكثير من البلبلة. فرغم أنه لم يخف أفكاره ومعتقداته الوحدوية وكان يكثر من ذكر اسم جمال عبد الناصر في خطبه ويسميه " أخونا الأكبر "، كان يأخذه الحماس فيتفوه بعبارات تثير الضحك والسخرية مثل " جمهوريتكم هذه الهية، سماوية، خاكية "، أو " لا قصور ولا سيارات " أو " طاسة طاسة وبالبحر غطاسة " كما جاء في خطبته في البصرة. وتعرضت خطبه لمقاطعات وهتافات معادية كما حصل أثناء خطبته في الحلة، فقوطع خطابه وحصل اشتباك بين المحتشدين وكذا في أماكن أخرى وكأنها أمور مدبرة، كما كانت تصرفات عبد السلام بعيدة عن اللياقة أحيانا أو أنها تجافي الذوق السليم فأمدت المتقولين بمادة دسمة لتشويه صورته وتكذيب ادعاءاته وإضعاف مركزه كما حصل في الاحتفال الذي أقامته له الجبهة الوطنية في النجف.
كما سهل على الحزب الشيوعي مهمته أيضا أن جريدة " الجمهورية " التي صدرت بعد الثورة، وكان امتيازها باسم عبد السلام عارف، أخذت تبرز خطبه وكلماته وتنشر صوره بأحجام كبيرة فكانت هي الأخرى مادة حملها السعاة والرسل والناشطون الذين عرفوا طريقهم إلى أذن عبد الكريم قاسم الذي أصاغ السمع جيدا. وكان من مصلحة الكثيرين إزاحة عارف وما يمثله من تيار ليخلو الطريق لسالك جديد.
وهكذا أقيل من منصبه العسكري فصدر في 12 / 9 / 1958 قرار بإقالته من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. وبهذه الإزاحة سجل حاملوا