جمال عبد الناصر ".
وعندما رد الشاهد قائلا: " مصر والعراق كانوا أحدهما يشتم الآخر ".
تدخل رئيس المحكمة قائلا: " هل كان شتم جمال عبد الناصر من قبل الجمالي في صالح العراق؟ " فأنكر الشاهد أن يكون الجمالي شتم جمال عبد الناصر وقال: " أين شتم عبد الناصر؟ " فقال الرئيس: تهجمه أيضا لا تعرفه؟!
فرد الشاهد: أين تهجم ومتى؟
وظل هاجس اتهام الجمالي بمخاصمة جمال الناصر واتخاذ ذلك أحد أسباب الحكم عليه - ظل هذا الهاجس يلازم محكمة المهداوي لدى استجوابها كل شاهد.
فعند استجوابها لشاهد آخر سأله الرئيس مريدا توريطه بإجابة تدين الجمالي: " هل كان الجمالي يؤيد فكرة التفاهم مع مصر؟ " فحاول الشاهد التخلص من الإجابة، فقال: " قبلا كان الجمالي يرغب في الوصول إلى شئ من التفاهم مع مصر. ولكن في المدة الأخيرة اتصالاتي الشخصية معه كانت قليلة فلا أعرف عنه شيئا ".
وحاولت المحكمة استدراج شاهد آخر فسألته: سمعتم خطاباته أو قرأتموها في الجرائد حول التهجم على مصر ورئيسها ما هو رأيكم فيها؟
وهكذا بينما كانت محكمة المهداوي تتخذ من مخاصمة جمال عبد الناصر جريمة تحاكم الناس عليها، وبينما كان مدعيها العام يهاجم من يتهمهم بهذه المخاصمة ويعتبرها خيانة ويطلب الحكم على أصحابها بأقصى العقوبات.
وبينما يتهم رئيس المحكمة، الجمالي بأنه شتم جمال عبد الناصر وتهجم عليه وأن ذلك جريمة يتهم بها الجمالي فيما يتهم به من جرائم، وفيما يحاول بعض الشهود إقصاء هذه التهمة عنه لعلمهم بخطورتها عند المحكمة.
بينما كان يجري كل ذلك، إذا بذاك المدعي العام نفسه يصرخ بعد أسابيع في المحكمة ملقبا جمال عبد الناصر بناصر الاستعمار وينهال عليه بسيل من الشتائم، وإذا برئيس المحكمة نفسه لا يدع مناسبة إلا ويشتم فيها جمال عبد الناصر، وإذا بالتهمة الكبرى تنقلب على لسانه من شتيمة جمال عبد الناصر إلى التقرب من جمال عبد الناصر وإذا بالرجال يواجهون في المحكمة بتهمة مدح جمال عبد الناصر والثناء عليه فيطلب الحكم عليهم بأقصى العقوبات.
وبعد أن كان المتهمون يحاولون التنصل من تهمة مجافاة جمال عبد الناصر لأنها عند محكمة المهداوي خيانة وليست في صالح العراق، إذا بالمتهمين الآن يحاولون التنصل عن موالاة جمال عبد الناصر ويزعمون لأنفسهم مجافاته ليكون لهم ذلك زلفى عند المحكمة!.
وبعد أن كان يتعالى من منبر المدعي العام تمجيد جمال عبد الناصر، صار يتعالى منه تقبيح جمال عبد الناصر وإسباغ الخيانة ومناصرة الاستعمار عليه!..
وصار من بعض أقوال المهداوي عن جمال عبد الناصر: " الزعيم الدعي والفرعون الصغير والهتلر الحقير والدكتاتور الفاشي ".
هكذا كان يساس العراق ابتداء من 14 تموز سنة 1958، من عهد عبد الكريم قاسم وصولا إلى عهد صدام حسين الذي بلغ فيه العراق أقصى درجات الانحدار نحو الهاوية...
على أنه لا بد لنا هنا من أن نشير إلى أن مثل هذه المواقف هي التي تظهر حقائق الرجال، وتميز معادن نفوسهم، ففي الشهود التي استدعتهم المحكمة ليشهدوا على الجمالي اختارت شهودا معينيين راعت في اختيارهم ما اعتقدت أنه يساعدها على إلصاق ما تعتبره تهما إلى فاضل الجمالي، فمن بين موظف مطرود من وزارة الخارجية، إلى زميل للجمالي في الجامعة كان الحسد يتأكل قلبه من تقدم زميله الجمالي في معارج النجاح حتى كان رئيسا للبرلمان ورئيسا للوزراء، فضلا عن تعالي صوته بين كبار الرجال في الميادين السياسية العالمية.
وبين سياسي كان اجتهاده في توجه السياسة العربية يختلف عن اجتهاد الجمالي، فكانا في المجال السياسي العراقي متعارضين.
وبين سياسيين كانوا رفقاء للجمالي في فترات من الحكم، ثم سيقوا مثله مسجونين إلى محكمة المهداوي، لعل هؤلاء يبرؤون أنفسهم باتهام الجمالي.
وهنا تفاضلت أخلاق الرجال، وتمايز الشرفاء الشامخون عن الأنذال الوضيعين.
فعبد الفتاح إبراهيم الذي كان زميلا للجمالي أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم في جامعة كولومبيا، ثم عجز بعد ذلك عن أن يكون شيئا مذكورا في الحياة العامة، ثم جاء القدر الأعمى فوضع فاضل الجمالي بين يدي رجل مثل فاضل عباس المهداوي ليحاكمه، ووضع عبد الفتاح إبراهيم في موقع الشاهد على فاضل الجمالي، فإذا بعبد الفتاح إبراهيم ينقلب نذلا لا يرى إلا التشفي بهذا الذي فاقه مكانة ورفعة وتركه في مؤخرة الركب الاجتماعي. فإذا به يقول فيما يقول في شهادته عن الجمالي:
" هذا الشخص التافه الذي يقف أمامكم ".
وأمثال هذا الكلام الطافح بالبذاءة...
ثم يحسب أن الجمالي وهو في محنته لا يستطيع أن يتذكر وأن يجمع أفكاره لرد الأكاذيب، فقال يصف الجمالي وهو في الجامعة الأمريكية: " كان منعزلا عن الشباب العراقيين باعتبار أنه كان عندنا نادي (النادي والجمعية العراقية)، والمتهم لم يكن له شأن فيها ".
ولكن الجمالي الذي كان نبيها متفتح الذهن طيلة حياته، لم تضعف المحنة هذه الصفات فيه، فعندما سألته المحكمة عما يقول في أقوال الشاهد، رد عليها قائلا: " الشاهد المحترم ذكر أني لم أكن منتميا إلى الجمعية العراقية، هل نسي أني كنت رئيس الجمعية في إحدى السنوات؟ هل يتذكر أني كنت رئيسها أم لا؟ هل نسي أني كنت رئيس جمعية العروة الوثقى، الجمعية التي تجمع الطلبة العرب في الجامعة على أساس قومي، هل يعرف ذلك أم لا؟ " وهنا كان الخزي يغطي الشاهد النذل...
وفي المقابل: كانت الاتجاهات السياسية للشيخ محمد رضا الشبيبي تتعارض مع الاتجاهات السياسية لفاضل الجمالي، فكانا في مجال السياسة العراقية يعتبران خصمين متنافرين.
وعندما دعي الشبيبي ليشهد على الجمالي رفض أن يدينه، وقال ما مضمونه: إن كل ما في الأمر أنه كان لنا في التوجه السياسي اجتهادنا، وكان للجمالي ومن يرى رأيه اجتهادهم، وكل من الفريقين لا يبغي إلا مصلحة العراق، وإن اختلف الطريقان والأسلوبان.
وقبل أن ننشر تلخيصا لدفاع الجمالي ننشر رأيا لأحد من يعتبرون من الممهدين لما أسموه (ثورة 14 تموز) في أمور تلك الثورة - النكبة، وهو أحمد الحبوبي الذي قال فيما قال:
وعلى حد علمي حصل مقتل الملك بتصرف فردي فلا يوجد قرار بقتل فيصل الثاني. أما لجنة ضباط الثورة فناقشت مصير الملك، وطرح رأي بالتصفية الجسدية اعترض عليه واستبعد تماما واتفق على أن يرحل مع أفراد عائلته إلى خارج العراق كما فعلت ثورة يوليو المصرية مع الملك فاروق.