لخلق حال من التوازن بين القوى السياسية المتصارعة ومراكز النفوذ، لكنه الوحيد الذي بقي مستقلا معتمدا على نفسه وثقله في الدولة ومكانته لدى الملك. وكانت نظريته - حتى وفاته - بأنه من الصعوبة بمكان أن يجتمع عشرة عراقيين تحت سقف واحد ويظلون مخلصين لما اتفقوا عليه، لا تضعفهم النكبات ولا تشتتهم الأحداث. وأحسب أنه كان صادقا محقا في تشخيصه هذا الداء الذي ما زال مستشريا في صفوف العراقيين إلى اليوم. ولم يكن الجمالي بحاجة إلى خبرة ثلاثة أرباع القرن العشرين من العمل السياسي ليتوصل إلى تلك النتيجة. ولم يكن بوسعي أن أفهم خلفية هذه المبدئية ونظرته المتشائمة إلى الأحزاب والمتحزبين لولا أنني عدت إلى ما كتبه أحمد سوسة من مذكرات، فوجدت أن الجمالي اتخذ موقفه المتزمت ذاك منذ كان طالبا في بيروت وهو ابن العشرين، ناهيك عن تجاربه السابقة التي استقرأها من ثورة العشرين وما صاحبها من خيانات ووشايات ثم المعارضة الشديدة التي كان يواجه بها رجال الدين المصلحون من قبل المتخلفين والتقليديين والمتزمتين.
يذكر صديقه سوسة بأنه استلم رسالة بعثها الجمالي من بيروت إلى الولايات المتحدة يخبره فيها بأن حالة من الانقسام بدأت تدب في أوساط الطلبة العراقيين في بيروت. وبالرغم من تطمينات سوسة للجمالي بأنه لا يزال هناك " بارق أمل في أخلاق الكثير من الإخوان وصدق معظمهم "، فإن الجمالي يزداد تمسكا برأيه على " أننا قد اتفقنا على أن لا نتفق، وقد اتحدنا على أن لا نتحد "!
بديهي أن سيرة الجمالي السياسية قد لا تكون السيرة المثلى لدى خصومه ومعارضيه أو حتى لدى أولئك لم يدرسوه، ولكن عصاميته وتاريخه النضالي يفتقر إليهما كثيرون. وهو فضلا عن كونه مربيا، كان شاعرا مرهف الأحاسيس والعواطف حز في نفسه أن يرى من كان يربيهم ويخدمهم يجرجروه إلى محاكم ثورية تحكم عليه بالإعدام والسجون المؤبدة والغرامات الثقيلة. بينما كان الشعب يصفق مؤيدا تلك الأحكام! ورجال العهد الملكي يسحلون في الشوارع وتعلق جثثهم على الأعمدة والبنايات.
لقد ظل لآخر لحظة من حياته يسائل من يلتقيه من العراقيين، لماذا ثرتم علينا؟ ماذا فعلنا بكم؟ ألم نعمل من أجلكم؟ ولم يجبه أحد لا سيما وهو يقارن بين " العهد المباد " وعهد " القائد الضرورة " حتى مات في الرابع والعشرين من شهر أيار (مايو) الماضي عن عمر ناهز الرابعة والتسعين، بعد 39 عاما من الحكم عليه بالإعدام! (انتهى).
التهم التي وجهت إلى الجمالي تخلص التهم التي وجهت إلى الدكتور فاضل الجمالي كما جاءت على لسان المدعي العام كما يلي:
1 - أنه عمل على التدخل في شؤون سوريا الداخلية وتآمر على كيانها وسلامتها.
2 - أنه عمل على إدخال العراق في حلف بغداد.
3 - تعرض بالتجريح لشخص جمال عبد الناصر في مجلس الأمن وفي جريدته العمل.
4 - صرف أموالا حكومية على التدخل في شؤون لبنان وسورية.
الجمالي يفند الافتراءات عليه أوجز الدكتور غسان عطية حياة الجمالي الحافلة بأشرف المواقف في الدفاع عن الشعوب العربية في المحافل الدولية لا سيما شعوب شمال أفريقيا.
وقد بلغ في ذلك أقصى ما يبلغه مخلص لأمته العربية. فكان مما فعله عندما ذهب وفد تونسي شعبي لعرض ظلامة تونس في نيويورك مقر الأمم المتحدة، وعجز هذا الوفد عن إسماع صوته في اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة لأن لا صفة رسمية له تخوله الاشتراك في الاجتماعات. وكان صوت فاضل الجمالي مندوب العراق الذي تولى عرض القضية التونسية، لم يكن صوتا تونسيا ليكون له الأثر المطلوب، فعمد فاضل الجمالي إلى تعيين الموفد التونسي سكرتيرا للوفد العراقي، وبذلك صار له الحق في حضور اجتماعات هيئة الأمم المتحدد والتكلم فيها، وبذلك ارتفع صوت تونس عاليا على منبر الأمم المتحدة.
وقد أغضب هذا التصرف مندوب فرنسا فصب نقمته على الجمالي، ولكنه لم يستطع أن يبطل تصرفه.
وكما وقف إلى جانب الشعب التونسي الوقفات الجبارة، كذلك وقف هذه المواقف إلى جانب الشعب المغربي الذي كانت بلاده تعرف يومذاك باسم (مراكش).
وكان قبل ذلك قد وقف إلى جانب الشعب الليبي عند عرض قضيته.
ولما حلت المحنة بالجمالي وسيق إلى محكمة السفيه فاضل عباس المهداوي ولقي ما لقي وحكم عليه بالإعدام، وفى له الأفارقة وعملوا على إيقاف تنفيذ الحكم، فلم يكن بإمكان عبد الكريم قاسم إلا الاستجابة.
فأطلق سراحه، وتبين أن هذا الذي تولى رئاسة الوزارة مرتين ورئاسة البرلمان مرتين، وتولى وزارة الخارجية مرات ومرات، فضلا عن توليه مديرية التربية والتعليم ومديرية الخارجية سنين وسنين. - تبين أنه لا يملك شيئا من حطام الدنيا يؤمن له ولأسرته ضرورات العيش. فهبت تونس تدعوه إليها وعهدت إليه بالتدريس في جامعتها، فكان ذلك له مورد رزق حتى آخر حياته. (انتهى).
لقد كان من نتيجة فتنة 14 تموز 1958 التي ابتدأ منها تدهور العراق أن قبض - فيمن قبض عليهم - على فاضل الجمالي وأدخل السجن ثم سيق إلى المحاكمة أمام محكمة فاضل عباس المهداوي. ومن مخازي تلك المحكمة أنها كانت تحاكم الناس بتهمة مخاصمة جمال عبد الناصر، وكانت هي إحدى التهم التي وجهت إلى فاضل الجمالي. فقد جاء في اتهام من سموه المدعي العام لفاضل الجمالي هذا النص في الثناء على جمال عبد الناصر: " ووقف جمال عبد الناصر يقرع آذان الإنكليز والأمريكان ويقول بصوت دوى في كل أرجاء العالم إننا نعارض الأحلاف الأجنبية ".
كما جاء فيه: " بلغت الجرأة بالمتهم أنه هاجم القومية العربية بشخص سيادة الرئيس جمال عبد الناصر " وجاء فيه عن ما كتبه الجمالي: " وكانت كلها مكرسة للطعن في الجمهورية العربية المتحدة والنيل من سيادة رئيسها ".
وجاء فيه: " كما تعرض المتهم بالتجريح بشخص سيادة الرئيس جمال عبد الناصر ".
وجاء فيه مخاطبا الجمالي: " لقد دعاكم الرئيس جمال إلى الحياة فلم تستجيبوا تلك الدعوة ". وبسبب هذه التهمة طلب المدعي العام الحكم على الجمالي بهذا النص: " كل ذلك ما ينطبق على أحكام الفقرة (ب) من المادة الأولى من القانون الرقم (7) لسنة 958 وعليه أطالب بتجريمه بمقتضاها والحكم عليه بمقتضى المادة الرابعة من القانون المذكور " وفي خلال المحاكمة سأل المدعي العام أحد الشهود مستدرجا إياه للإقرار بفظاعة مخاصمة جمال عبد الناصر - سأله هذا السؤال: " رأي الشاهد كمسؤول في الحكم السابق بتهجم الجمالي على الجمهورية العربية وعلى شخص رئيسها