جيش سيف الدولة كان خليطا من عدة شعوب فكان مما قاله صاحب المقال المعترض عليه:
- " أما الصورة الثالثة التي وددت أن أشير إليها من صور المحاربين في تاريخنا فهي صورة جيش الأمير سيف الدولة الحمداني الذي كان يقف رغم صغر امارته على الحدود بين الدولة الاسلامية والدولة البيزنطية وقفة شجاعة، وان كانت تتكئ على جيش يغاير في تركيبه جيش القبائل في الجاهلية، وجيش المسلمين في الفتوح... فقد كان خليطا من أقوام متعددة الجنسيات، في عصر اقطاعي غرق في أسواق الرقيق الذي أفاد منها سيف الدولة، فأنشأ ذلك الجيش الذي يصفه الشاعر المتنبي بقوله:
أتوك يجرون الحديد كأنهم * سروا بجياد ما لهن قوائم خميس بشرق الأرض والغرب زحفه * وفي أذن الجوزاء منه زمازم تجمع فيه كل لسن وأمة * فما يفهم الحداث الا التراجم فرد عليه إبراهيم ونوس بهذه الكلمة وفيها وصف لإحدى معارك سيف الدولة:
والحقيقة التاريخية تخالف هذا القول تماما، فجيش سيف الدولة كان بغالبيته من أبناء أفخاذ بكر بن وائل، عشيرته تغلب، وشيبان وغيرهما، وأبناء القبائل العربية الأخرى التي كانت تسكن بوادي ومدن شمال بلاد الشام، كبني كلاب، وقشير، ونمير، وبلعجلان وتنوخ وغيرهم... وهذه القبائل كانت تسكن المناطق التي تمتد من الموصل، وديار بكر شرقا، إلى أنطاكية واللاذقية غربا، و " من حدود بلاد الشام مع الدولة البيزنطية شمالا، حتى بوادي " سلمية " و " تدمر " و " حسباء " جنوبا... وإذا وجد في جيشه بعض الغلمان والقادة من غير العرب، فهم قلة لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ذكر لنا التاريخ أسماء بعض منهم " يماك " و " قرعويه " و " نجا "...
والشاعر أبو الطيب المتنبي لم يصف في الأبيات التي أوردها كاتب المقال جيش الأمير سيف الدولة... بل وصف بها جيش الروم الكبير الذي هزمه سيف الدولة شر هزيمة في معركة " الحدث الكبرى " عام 343 ه...
والحدث قلعة قديمة على حدود بلاد الشام مع الدولة البيزنطية، خربها وأحرقها القائد البيزنطي " الدمستق فردس فقاس " سنة 237 ه. فقرر الأمير سيف الدولة في 17 جمادى الثانية من عام 343 ه، احتلالها وإعادة ترميم حصونها وجدرانها، كي يجعل منها قاعدة عسكرية متقدمة لقواته، ويحرم العدو البيزنطي من الاستفادة منها في عملياته الحربية، وفيما كان سيف الدولة منهمكا مع قادته وجيشه وعماله في بناء حصون القلعة تقدم القائد البيزنطي نحو القلعة بجيش عرمرم من اليونان والبلغار والخزر والصقالبة والروس والأرمن، زاد عن خمسين ألفا بين فارس وراجل...
وعندما وصل الجيش البيزنطي إلى أرض المعركة، أعطى القائد أوامره بمحاصرة قلعة الحدث... فتم له هذا.
تم حصار الروم لجيش سيف الدولة في أصيل أحد أيام أواخر جمادى الثانية من عام 343 ه، وكان الأمير سيف الدولة قد علم مسبقا ما ذا سوف يفعل القائد الرومي، وقد هيأ نفسه له، فقرر أن يخوض معركته المريعة في صباح اليوم التالي... فأمر وحدات الصدمة الرئيسية في جيشه أن تتهيأ خلال الليل، وعددها حوالي خمسة عشر ألفا بين فارس وراجل، بقيادة ابن عمه الأمير أبي فراس الحمداني ومحمد وهبة الله ابني أخي سيف الدولة، وناصر الدولة أمير مدينة الموصل في تلك المرحلة من التاريخ، " ونجما " غلام سيف الدولة، وأبقى الأمير سيف الدولة خمسة آلاف من خيالة البدو الخفيفة بإمرته لحسم المعركة في الوقت المناسب...
مع بزوغ أول ضوء في سلخ جمادى الثانية، تقدم أبو فراس بقوام جيشه وهاجم جيش الروم بعنف وضراوة، ومن مكان لم يكن يتوقعه القائد البيزنطي، وهو اتجاه حصن من حصون القلعة يسمى " الأحيدب "... دارت معركة رهيبة جدا لم يذكر التاريخ لها مثيلا في تلك الحقبة... أبدى الأمير سيف الدولة حنكة، وفنا قياديا عالي المستوى، وتخطيطا مدهشا، وشجاعة فائقة...
وبعد مرور بضع ساعات على بدء المعركة، والروم يعتقدون أنهم الغالبون، وفي الوقت المناسب الذي خطط له الأمير سيف الدولة... بدأ هجومه السريع بخيالته الخفيفة من فرسان البدو المعروفين بخبراتهم القتالية العالية باتجاه قلب الجيش البيزنطي، وشق طريقه بهم بين صفوف الجيش المعادي، ومعه أبو الطيب المتنبي، حتى وصل إلى مقر قيادة الجيش البيزنطي فلم ير أمامه سوى الفرار والنجاة من سيف الدولة... ففر بسرعة، وترك جيشه طعما لسيوف جنود سيف الدولة... وقبل غروب شمس ذلك اليوم، كان جيش حلب يسيطر سيطرة كاملة على الموقف، بعد إبادة جيش الروم بكامله تقريبا، وقتل في هذه المعركة ابن الدمستق وصهره، وابن عمه، وزوج أخته... وانتشرت جثث عشرات آلاف من القتلى من جيش الروم فوق أرض المعركة... فأهاج هذا المنظر المريع شاعرية أبي الطيب المتنبي، فنظم قصيدته التي يصف فيها المعركة ذات المطلع:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الكرام المكارم وأنشدها أمام الأمير سيف الدولة، وجنده المنتصرين، والعمال العرب يبنون آخر شرفة في قلعة الحدث..
وفي هذه القصيدة يصف أبو الطيب الأمير سيف الدولة أثناء المعركة فيقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم ويصف أبو الطيب جيش الروم، و ليس كما ذكر كاتب المقال جيش سيف الدولة... فيقول:
أتوك يجرون الحديد كأنهم * سروا بجياد ما لهن قوائم إذا برقوا لم تعرف البيض منهم * ثيابهم من مثلها، والعمائم خميس بشرق الأرض والغرب زحفه * وفي أذن الجوزاء منه زمازم تجمع فيه كل لسن وأمة * فما تفهم الحداث الا التراجم قال أبو البقاء العكبري في شرحه للبيت الرابع من هذه الأبيات ما يلي:
- " المعنى: جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد، والبريق اللمعان، يفرق بين سيوفهم وبينهم، لأن على رؤسهم البيض والمفاخر، وثيابهم الدروع، فهم كالسيوف، وقد فسره بقوله: " من مثلها "... أي مثل السيوف، يريد من الحديد وأشار بهذا الوصف، أعنى كثرة سلاح هذا الجيش إلى قوته، وبما ذكره عن هذه الهيئة إلى شدته، وسمعت بعضهم، وكان شيخا يقرأ عليه الديوان يقول: أخطأ أبو الطيب، كيف ذكر العمائم، والعمائم