الرابعة: أن إقامة البرهان على السلطنة والقدرة للانسان على أفعاله وإن كانت صعبة إلا أنه لا حاجة إليها بعدما كانت المسألة فطرية وجدانية، لأن الوجدان السليم والعقل الفطري حاكم بسلطنة الانسان على أفعاله وتصرفاته بمختلف أنواعها وأشكالها، ومن هنا لا يختلف اثنان من العقلاء في أن تلك التصرفات والأفعال مورد للحسن والقبح والحساب والعقاب والمدح والذم، ولهذا يفرقون بين الأفعال الاضطرارية وهي الأفعال التي تصدر من الانسان بغير اختيار كحركة يد المرتعش واصفرار وجه الخائف عند الخوف أو ارتعاش يديه أو حركة أمعائه وما شاكل ذلك، وبين الأفعال الاختيارية التي تصدر منه بسلطنته وقدرته، فان الأولى لا تكون موردا للحساب والعقاب والمدح والذم والحسن والقبح دون الثانية، وهذا الفرق غير قابل للانكار، فان انكاره إنكار للوجدان والفطرة السليمة.
والخلاصة: أن سلطنة الانسان على أفعاله وتصرفاته صفة وجدانية في النفس كسائر صفاتها الوجدانية كالحب والبغض والخوف وما شاكل ذلك، فلذا لا مجال للبحث عن أن الانسان مالك لهذه الصفة أو لا، فإنه كالبحث عن أنه مالك لصفة الحب والبعض ونحوهما. ويؤكد ذلك أن الانسان كثير ما يرجح أحد طرفي الفعل على الآخر بلا مرجح، فلو كان صدور الفعل من الانسان منوطا بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد، استحال صدور الفعل منه بلا مرجح يوجب وجوب وجوده مع أن امكان صدوره منه بدون أي مرجح أمر وجداني، كما إذا كان عنده إناءان من الماء متساويان من جميع الجهات بدون أي مرجح لأحدهما على الآخر، فإنه لا محالة اختار أحدهما ولا يبقى عطشانا، فلو كان صدور الفعل متوقفا على وجود مرجح بقاعدة الوجوب بالعلة لبقي عطشانا وهو كما ترى، ومنه ما إذا كان أمام الهارب طريقان بدون ترجيح