أما الدليل الأول فهو ساقط جدا، وذلك لأن مدركات العقل العملي وهي الحسن والقبح، فقد عرفت أنها من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية فطرة، مثلا قبح ما يصدق عليه عنوان الظلم وحسن ما يصدق عليه عنوان العدل في الجملة من القضايا الفطرية الأولية وغير قابلة للانكار ومتمثلة فيما ينبغي فعله واقعا وما لا ينبغي كذلك، والأول حسن في نفسه من فاعله وينبغي أن يصدر منه سواءا كان في ملكه أم لا، والثاني قبيح منه كذلك وينبغي أن لا يصدر منه سواءا كان في ملكه أم في ملك غيره، مثلا من قصر في حفظ نفسه مثلا وأدى إلى هلاكه أو ما يتلو تلوه، كان يصدق عليه أنه ظلم نفسه رغم أنه تصرف في ملكه، وكذا لو عاقب المولى عبده المطيع، كان يعد ذلك ظلما منه تعالى وهكذا، لأن الظلم سلب ذي الحق عن حقه.
والخلاصة: أن العقل العملي كما يحكم بأن مؤاخذة المولى عبده على الفعل الصادر منه قهرا وبغير الاختيار ظلم في حقه وإن كان التصرف تصرفا في ملكه وفي دائرة سلطنته، كذلك يحكم بأن مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم.
وأما الثاني فلأنه مبني على الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري، وذلك لأن الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوما بحكم العقل العملي، وأما العقل النظري فلأن شأنه ادراك ما هو واقع وثابت في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود على ما هو عليه فيه كاستحالة اجتماع النقيضين والضدين والدور والتسلسل ومبدأ العلية وسر خضوع الأشياء لهذا المبدأ وهكذا، ومن هنا لا يقتضي الدرك في العقل النظري سلوكا خاصا وموقفا معينا عملا كما هو الحال في المدرك بالعقل العملي، فإنه يدرك حسن الشئ أي ما ينبغي فعله وقبح آخر أي مالا ينبغي فعله، والمدرك في كل منهما يقتضي سلوكا خاصا وموقفا