يمنعكما أن تموتا كريمين " - في أولى البوادر التي أثارت شك المنصور وريبته في نيات بني الحسن، ثم توالت عليه أخبار وأنباء بعث بها اليه عيونه وأرصاده أكدت له خلاف بني الحسن وأن محمد بن عبد الله عازم على الثورة، وكان بعض بني الحسن أنفسهم - وهو الحسن بن زيد بن الحسن - يؤكد لأبي جعفر المنصور أن بني الحسن ثائرون عليه لا محالة فأيقظ الحسن منه عينا لا تنام، وفي الحسن هذا يقول موسى بن عبد الله بن الحسن - ثالث الأخوين محمد وإبراهيم: " اللهم أطلب حسن بن زيد بدمائنا ".
ولا شك انه كان عينا للمنصور يرفع اليه أخبار بني الحسن، وللحسن هذا ابن مشهور اسمه القاسم ورث عنه هذه الخصومة لأبناء عمه وهو الذي حمل البشارة بمقتل النفس الزكية إلى المنصور...
والواقع ان للحسن بن زيد أولادا آخرين لم يتبعوا طريقة والدهم في مجافاة بني الحسن بل إنهم التحقوا بثوار المدينة وكانت لهم صلة وثيقة بالنفس الزكية والحق أن المنصور كان بالغ القسوة شديد العقوبة والمؤاخذة لا يستطيع ضبط نفسه إذا رأى زعيما من زعماء بني الحسن وخصوصا أبا محمد هذا، بل كان لا يتردد من ضربهم وإهانتهم وتعذيبهم وزجهم في السجون المطبقة في الحجاز والعراق، وقد عبر عما يكن من حنق وحقد غالب عليه بقوله - والسياط تنهال بأمره على أحد بني الحسن في الربذة -: " هذا فيض فاض مني فأفرغت منه سجلا لم أستطع رده ".
النفس الزكية أنجب عبد الله بن الحسن هذه السلالة التي قادت الجيوش وكانت شجى في حلق الطبقة الأولى من بني العباس، ولا شك أن المنصور قمع ثورة غير واحد من بني الحسن - وفي مقدمتهم النفس الزكية " قتيل أحجار الزيت "، واخوه إبراهيم قتيل " باخمرى " الا انه قد استطاع غير واحد منهم أن ينشئ ملكا عريضا في غير ناحية من نواحي العالم الاسلامي شرقا وغربا، فكانت لبعضهم دولة في المشرق وكانت لآخرين منهم دولة أخرى تعرف بدولة الأدارسة في المغرب، وكان لبعضهم ملك كبير في جهات أخرى لا شك أن أبعد بني عبد الله شهرة وأبقاهم ذكرا هو محمد المعروف بالنفس الزكية الذي ناضل نضال الابطال حتى مات في طلب الإمامة.
ولدت مع مولد محمد بن عبد الله هذا فكرة الدعوة بالإمامة وقدر أهله وفي مقدمتهم أبوه عبد الله الذي كان يطوف به على الاحياء انه المهدي الموعود، وتقبل كثير من الحجازيين وأهل المدينة خاصة هذه الدعوة ووقعت من نفوسهم موقعا حسنا وصادفت هوى من قلوب المدنيين.
لقن محمد هذا وهو ناشئ أنه المهدي وألقي في روعة وهو حدث إلى أن شب وترعرع انه الذي تحدثت بظهوره الروايات فلا سبيل إلى مناقشته في هذا الأمر، بل كان من السهل وصم من يشك في إمامته بالمروق عند كثير من أهل الحجاز والمدينة، ومن شان كل ناشئ على هذا النمط من التربية والتلقين أن يكون راسخ العقيدة شديد الايمان بحقه، وهكذا كان محمد بن عبد الله بن الحسن نشأ وهو واثق انه خليفة زمانه لم يتطرق اليه شك في ذلك وفي أن له حقا مغصوبا وأن غاصبه هو المنصور، فلا مناص له من الخروج في سبيل الحق، أضف إلى ذلك أنه كان في الواقع على قسط لا يستهان به من العلم والنسك والدين، ومن ذلك لقبه النفس الزكية، وحسبك أن تتصفح الرسائل القيمة المتبادلة بينه وبين أبي جعفر المنصور قبل خروجه لتجزم بأنه غزير العلم قوي الحجة بصير بالاخبار والانساب، لذلك مال الهاشميون المؤتمرون في الحجاز في ذيل الدولة الأموية إلى ترشيحه للخلافة وبايعه من بايعه منهم، وفي مقدمتهم أبو جعفر المنصور نفسه.
كان محمد بن عبد الله موقنا بان بيعة المنصور له لا يمكن نقضها شأنه في ذلك شأن ذوي العقائد أو المبادئ الراسخة والمثل العالية وانها عقد لا يصح ابطاله وأن الخلافة أصبحت حقا له لا ينازع فيه، والحق فوق القوة، وكان المنصور على نقيض ذلك من الزعماء أو الساسة الواقعيين الذين يرون أن الحق للقوة وأن العهود والمواثيق لا تعدو قصاصة ورق من السهل تمزيقها، وهكذا كان، فما أبعد الفرق بين المزاجين والخلقين!
من ذلك عني أبو جعفر بملاحقة عبد الله بن الحسن وأبنائه أشد العناية - على ما رأيت -، وكان بينه وبين سلفه أبي العباس السفاح بون بعيد في هذا الشأن.
بنو الحسن في خلافة السفاح كان أبو العباس لين العريكة إذا قورن بأبي جعفر المنصور لم يسرف كأخيه في سفك الدماء - إذا استثنينا وقايعهم مع الأمويين -، والحق أن المنصور يختلف عن سلفه اختلافا ظاهرا من هذه الناحية ونحن نرى السفاح لا يعمل بكثير من آراء أخيه المنصور ولا يوافقه على صرامته وشدته، أراده المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني فنهاه عن ذلك قائلا: " يمنعني عن قتله سابقته في الدعوة وجهاده في قيام الدولة "، ولم ينزل أبو العباس السفاح كذلك على رأي أخيه في قتل وزيره أبي سلمة الخلال وهو الذي حاول نقل البيعة إلى العلويين - على أن السفاح لم يكن مصرا على ذلك ولهذا تولى قتله بعض العباسيين غيلة بعد استشارة أبي مسلم الخراساني في الكوفة، ولا شك أن المنصور حاول الفتك بمن لقيه من بني الحسن في ولاية عهده للسفاح ولكن كان يحسب لغضب أخيه حسابه.
لما استخلف أبو العباس السفاح وفدت عليه - وهو في الأنبار قاعدة ملكه الجديدة - وفود العرب من كل فج وكان في طليعتها وفد كبير من الطالبيين والعلويين وكلهم من أهل المدينة يتقدمهم عميد بني الحسن عبد الله بن الحسن وأخوه الحسن ويلاحظ أن الوفد اقتصر على فريق من مشيخة الطالبيين وآل الحسن اما معظم الشبان وفي مقدمتهم أبناء عبد الله وأبناء أخيه فإنهم تخلفوا عن المجئ إلى العراق وأن السفاح احتفى بالوفد المذكور حفاوة بالغة وكان يتفضل أمام عبد الله بن الحسن ويستقبله بمباذله محاولا إزالة الجفاء والوحشة بين البيتين ومن ذلك أنه احتمل أثناء هذه الحفاوة بضيوفه في الأنبار أقوالا لا معنى لصدورها منهم الا التعريض بالدولة العباسية، وقد أسمعه الضيفان الكبيران ما يوهم نزول العباسيين عن ملكهم إلى غيرهم في مستقبل الأيام، ويلاحظ أيضا أن الحديث على تشعبه بين هؤلاء الهاشميين في مدينة الأنبار لم يتناول موضوع " البيعة " وان المؤرخين الذين عنوا برواية أخبار عبد الله بن الحسن وأخبار من معه من الطالبيين في وفادتهم هذه لم يشيروا إلى البيعة ولا شئ أهم من الدخول فيها إذ ذاك، ومن رأينا أن هؤلاء العلويين والطالبيين اشترطوا في هذه الوفادة عدم التعرض للبيعة كما أن السفاح لم يكن ملحا عليهم في ذلك، ولذلك اعتبرت هذه الزيارة " أخوية بحتة " أو " شخصية " ولو كان المنصور مكان السفاح في ذلك الحين لأصر على الدخول في البيعة ولضرب أعناق القوم - لو امتنعوا - فورا أو ألقاهم في السجون المطبقة والمطامير ليموتوا فيها أبشع ميتة كما قام بعد استخلافه بذلك.
كان زعماء العرب لا يرون في وفادتهم على أقرانهم وأندادهم وقبول الرفد