المنهج المرسوم عانى جعفر بن محمد كثيرا في سبيل إزالة المخاوف والأوهام التي ساورت السلطان بشأن خطته أو منهجه المرسوم، فهو زعيم بيت ناهض دولا وناهضته دول وأقلق حكاما وفني من فني من رجاله وشبابه في ميادين القراع، فإذا قيل: أن جعفر بن محمد موتور وجد من يقبل ذلك، وإذا قيل: انه يهم بالانتقام والخلاف لم يستكثر ذلك عليه فكان هدفا للسعاة والوشاة غير أنه - والحق يقال - ما كان في هذا الدور من أدوار حياته معنيا بطلب الثأر ولا منطويا على الانتقام ولم يكن له منهج مرسوم غير أحياء السنن ونشر المعارف والآثار.
لذلك عني بحسم مادة تلك المخاوف الأوهام التي ساورت أمراء بني العباس وخامرتهم بشأنه، فقاطع فريقا من خصومهم المنابذين لهم سواء كانوا خصوما في السياسة أم في غيرها، قاطع طبقة معروفة من الأعلام في الحديث والرواية لأنها طبقة غير مرغوب فيها من قبل السلطان، ويلاحظ أن الجفاء كان شايعا جدا بين امراء الدولة العباسية وهذه الطبقة من النساك بل كان يتبرم باتصال من يتصل به منهم وينهاهم عن غشيان مجلسه لعلمه بان ذلك يزعج الحكام ويثير هواجسهم وهو يريد اتقاء شرهم على كل حال، تدلنا على ذلك قصته المعروفة مع سفيان الثوري - ولا تخفى منزلة سفيان في الحديث والرواية - فإنه دخل على جعفر بن محمد فقال له: " أنت رجل يطلبك السلطان وأنا رجل أتقي السلطان قم فأخرج غير مطرود ".
اتصال الوشايات هذا ولم تنقطع السعايات والوشايات بجعفر بن محمد، وأكثرها يدور على اتصاله بأنصاره وأوليائه في الحجاز وفي العراق وخراسان وأنهم كانوا يحملون زكاة أموالهم اليه، وقد وضعت على لسانه كتب إلى هؤلاء الأنصار يدعون فيها إلى خلع الخلفاء العباسيين، بيد أن المنصور لم يعبأ بكثير من هذه السعايات، وهكذا سلم أبو عبد الله من القتل ونجا من الحبس ولم يرتكب منه ما ارتكب من بعض أعلام المدينة والعراق في عصر المنصور.
ويميل بعضهم إلى تعليل هذه البادرة بادرة المحاسنة والرفق من قبل المنصور وقلة اكتراثه بتلك السعايات بعلل لا يخلو بعضها من المبالغة، وقد يستندون في ذلك إلى روايات لا يصبر أكثرها على النقد والتمحيص.
كان الخطر محدقا بجعفر بن محمد - ما في ذلك شك - ولكنه سلم على كل حال، وكانت سلامته في الواقع وسلامة كثير من أهل بيته وأصحابه أعجوبة في المحنة المذكورة، ولم يسلم إلا بشق النفس وبتوطينها على كثير من التحرز والتوقي، يدل على ذلك حديثه المشهور بل كلمته الحكيمة البليغة: " عزت السلامة حتى لقد خفي مطالبها فان تكن في شئ فيوشك أن تكون في الخمول، فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في التخلي - وليس كالخمول - فإن طلبت في التخلي فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت - وليس كالتخلي - فإن طلبت في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالح، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها، وقوله: " أقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم وإن كان لك مائة صديق فأطرح منهم تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر "، ومن أقواله في العزلة: " إذا أمكنك ألا تعرف فافعل "، ومرد سلامته - فيما نرى - إلى منهجه السلمي البحث البعيد عن العنف في معارضة المنصور والى أخذ نفسه بالقصد والحذر الشديد والاحتياط التام، يدل على ذلك رده للأموال ورفضه للرسائل التي أمر المنصور بكتابتها اليه والى غيره من العلويين على لسان أنصارهم وأوليائهم في العراق وخراسان لتكون حجة بيد المنصور عليهم، وهو من هذه الناحية منقطع النظير بين العلويين.
كان المنصور أخبر العباسيين قاطبة بموقف جعفر بن محمد وأكثرهم إطلاعا على منهجه السياسي، وتروى له مع المنصور أخبار غير قليلة، وفي رواية لابن طاووس أن المنصور استدعاه سبع مرات، ولا تخلو بعض الأخبار من التناقض فبينما نرى المنصور في منتهى العنف والشدة مع أبي عبد الله إذ نراه في غاية اللطف والرقة، بيد أنه على كل حال كان يدافع عن سكان دار الهجرة - بلده ومسقط رأسه - وعن كرامة أبنائها ومصالحهم العامة كلما رأى ما يدعو إلى ذلك في ديوان المنصور وفي أندية امراء الدولة، يظهر ذلك من احتجاجه على الربيع بن يونس حاجب المنصور لما قدم الوافدين من أهل مكة على الوافدين من أهل المدينة زاعما أن مكة هي " العش " فاجابه جعفر بن محمد قائلا: " أجل ولكنه عش طار خياره وبقى شراره ".
لقي المنصور جعفر بن محمد وأتصل به مرارا، بعضها في عصر بني أمية وبعضها في عصر بني العباس، وضمتهما محافل عدة عني الهاشميون بعقدها للمداولة في كيفية التخلص من حكم بني أمية، وفي بعض هذه المحافل كان الإمام يجاهر بآرائه في انتقال الدولة وصيرورتها إلى بني العباس ويخالف المتطلعين إليها من بني عمه الحسن وينهاهم عنها بمحضر من بني العباس، ومن الواضح أن لعبد الله ولولديه محمد وإبراهيم آراءهم في الإمامة وفي الخلافة وما إلى ذلك، وهي تختلف عن المتعالم المعروف من آراء جعفر بن محمد، ولا تخلو بعض كتب الحديث والسير من الإشارة إلى هذا الاختلاف والى أنه بلغ حد المشادة في بعض الأحيان.
الرياسة بين الهاشميين عني بنو هاشم في أواخر الدولة المروانية بالمداولة فيما يعانونه من عسف امراء الدولة المذكورة وفي سام الناس من سياستهم وانحرافهم عنهم في اجتماعات عدة عقدها الهاشميون سرا في الحجاز، وشهدها أعيان القوم علويوهم وعباسيوهم، شهدها جعفر بن محمد وعبد الله بن الحسن وابناه محمد وإبراهيم من العلويين، وشهدها أبو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر المنصور وعماهما صالح وعبد الصمد ابنا علي وغيرهم من العباسيين، وكان نصب الرئيس واختيار الإمام من أهم الموضوعات التي دار عليها البحث في المحافل المذكورة، واختير للرياسة فيها محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية.
بايع الهاشميون محمد بن عبد الله إلا الإمام جعفر بن محمد فإنه اعترض على هذه البيعة معلنا أنها سابقة لأوانها وأن الدنيا مواتية لبني العباس دون غيرهم من الهاشميين، فلا فائدة من منازعتهم في ذلك، وكان الأمر كما قال.
تكافؤ القوى نهى جعفر بن محمد قومه عن عقد هذه البيعة، فهو يعلم أن هؤلاء العلويين متفرقون، وأكثرهم في الحجاز، والحجاز يومئذ من توابع العراق، وليس في العراق - حيث استخلصه العباسيون المغامرون، وحيث بويع أبو العباس السفاح - عدد يعتد به من العلويين المذكوريين، ثم أن هؤلاء العلويين من بني الحسن لم يشاركوا في حرب مروان بن محمد وفي الظفر به ولم يساهموا في انتزاع الجزيرة والشام وفلسطين ولا في انتزاع مصر والمغرب من الأمويين، هذا في الغرب، ويقال مثل هذا عن الشرق، أي أن الدولة العباسية هي الدولة القائمة