العباسيين فلم يجد الحكام مساغا لإراقة الدماء نزولا على هوى المنصور، والغالب أن لعبد الله بن الحسن والد الأخوين المتواريين دخلا قويا في ضعف هؤلاء الولاة عن الاهتداء إلى مكان أبنائه وعجز المنصور عن الظفر بهما، ومرد ذلك إلى منزلة عبد الله هذا وحرمته الكبيرة في المدينة ولدهاء وعقل فيه، فكان الولاة المذكورون يسمعون عنه ويطيعون.
المنصور يلح ما زال المنصور يلح وعبد الله يدافع، وقد نجح المنصور أو كاد في إشاعة الاضطراب والارتباك في نفوس بعض بني الحسن، وكانت بين عبد الله بن الحسن وسليمان بن علي - عم المنصور وعامله على البصرة - قرابة قريبة ومصاهرة فاستشاره في اظهار ابنيه على شرط أن يعفى عنهما فقال سليمان: لو كان المنصور من أهل لعفى عن عمه عبد الله بن علي - وهو أخو سليمان هذا - فلم يسع عبد الله بن الحسن إلا قبول هذا الرأي الذي ارتاه صهره وقريبه سليمان، ومن ثم أمعن في تشجيع أولاده على الثبات والمضي في الخلاف وهان عليه السجن في هذا السبيل وطال لبثه فيه على وجه أثار إشفاق أولاده ورثاءهم لحالته، وكان محمد ابنه يزوره في سجنه بالمدينة وخطر له أن يسلم نفسه للمنصور ليخلص والده ولكن الوالد الجلد الصابر ظل وهو رهين السجن يحث أولاده على الثبات والمقاومة حتى الموت وقد اشتهر له في هذا الشأن كلمته التي خاطب بها ابنيه قائلا " أن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين ".
وكان عبد الله أول من بث الدعوة لابنه وبايعه، ولذلك كان المنصور يكنيه " أبا قحافة " تشبيها له بعثمان بن عامر التيمي لأن أبا بكر ابنه بويع و هو حي كما بويع النفس الزكية وأبوه على قيد الحياة.
طلائع الثورة أجمع المؤرخون على أن طلائع الثورة الحسنية على الدولة العباسية بدأت بتضييق أبي جعفر المنصور على عبد الله بن الحسن وأهله وزجهم في سجنهم الأول بالمدينة - بعد استخلافه بنحو سبع سنين - متهما إياهم بتهم مختلفة ناسبا إليهم انهم يكيدون للدولة العباسية ويبغونها الغوائل، ولم يأمر المنصور بسجن عبد الله - بعد أن حاول قتله - إلا بعد أن أراده على احضار ابنيه وهدده وطالما تكاشفا وتغالظا في الكلام وقد أراد المنصور بالتضييق عليه في سجن المدينة أن يضطره إلى تسليم ابنيه ولما امتنع أشد امتناع أمر باشخاص بني الحسن إلى العراق وأشرف بنفسه على وضع الأغلال في أعناقهم والقيود في أيديهم وسامهم في الطريق من الحجاز إلى العراق ألوانا من العذاب والتنكيل والقتل إلى أن أودع من بقي على قيد الحياة منهم سجنه في قصر ابن هبيرة أو الهاشمية، وكان ذلك سنة 144 ه.
بقي عبد الله بن الحسن في سجن المنصور ثلاث سنين، وكان ينتحل لغياب ابنيه شتى الأعذار، مرة يقول: انهما منهومان بالصيد وطلبه وانهما هجرا لذلك الأهل والديار، وتارة يقول: انه لا يعلم من أمرهما شيئا، وطورا يدعى أن خوف المنصور اكرههما على الغياب وعلى الخروج إلى اليمن والى السند وإلى العراق وإلى أقطار أخرى.
كان محمد خبيرا بالتنكر والاختفاء جوابة للبوادي ورادا على المياه الأواجن وقد تزيا بشتى الأزياء، تزيا بزي الأعراب والعمال وغيرهم ولم يزل يتنقل من موضع إلى موضع إلى حين خروجه بالمدينة.
ظهور محمد بالمدينة ألح أمير المدينة في طلب محمد وضيق عليه وأرهقه الطلب طبقا للأوامر التي تلقاها من أبي جعفر المنصور بعد قفوله إلى العراق بمن حملهم من بني الحسن فلم يسع محمدا إلا الخروج والثورة بعد أن بعث بأخيه إبراهيم يجوس خلال مملكة المنصور في العراق، وهي الثورة التي قمعت على يد الأمير عيسى بن موسى - بعد ثلاثة أشهر - طبقا لما توقعه الإمام جعفر بن محمد - وقد مر شرح ذلك -.
تتضارب أقوال المؤرخين في أسباب نجاح المنصور في قمع ثورة بني الحسن بمثل هذه السرعة فيقال: أن محمدا خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه وقيل خرج بميعاده وكان التأخير من أخيه، ويبدو لنا أن أهل المدينة برموا من القلق والاضطراب وسئموا من الانتظار على وجه اضطر معه محمد إلى الخروج، ويقال أيضا أن أهل المدينة لم يكونوا أهل حرب كاهل العراق وكانت ذخائرهم ومؤونهم قليلة، وقد اتصل ذلك ببني العباس من جواسيسهم في الحجاز، ومن أجل ذلك هان على المنصور اخماد الثورة فيها، وفي كتب التاريخ روايات تدل على أن المنصور كان بارعا في نصب المكايد والخدع للثائرين فكانوا يتلقون رسائل مذيلة بتوقيع قواد الجيش العباسي وأمرائه يحثون فيها بني الحسن على الظهور ويخبرونهم أنهم من أنصارهم، إلى ذلك ونحوه مما جعل محمد بن عبد الله يعتقد بانحياز قادة الجيش العباسي إلى جانبه إذا ثار، وما كتبت تلك الكتب والرسائل إليه إلا بأمر أبي جعفر المنصور.
عنى المنصور باستشارة أصحابه في كيفية التغلب على محمد بن عبد الله فكانت لهم آراؤهم في هذا الشأن، وكثير منهم هون على المنصور أمر الثورة قائلين أن أهل المدينة ليس معهم آلة الحرب ولا قدرة لهم على الزحف، وقد يستطيعون الدفاع مدة قليلة، ومما يدل على ذلك أن عالما كثيرا من سكان المدينة تركوها إلى البادية والجبال لما دنا منها جيش المنصور يقوده ابن أخيه الأمير عيسى بن موسى، ولم يبق مع محمد بن عبد الله عدد يؤبه له وتفرق عنه جل أصحابه في أحرج لحظة.
أضف إلى ذلك أن أصحاب محمد اختلفوا في كيفية إدارة رحى الحرب داخل المدينة بيد أن محمدا مع ذلك كله ثبت ثبات المؤمن بحقه وقاتل قتال الابطال حتى قتل وقتل معه من أهل المدينة قوم لم يسع المنصور إلا الاعتراف ببسالتهم ونجدتهم البالغة.
بعض مميزات الثورة امتازت ثورة النفس الزكية ببعض المميزات الخطيرة وفي مقدمتها مشاركة عدد غير قليل من وجوه الدولة العباسية بالدعوة والبيعة له في الشرق والعراق والحجاز ومنهم عدد من أحفاد الصحابة والتابعين وعدد من النساك والقراء والفقهاء ونقلة الحديث والأثر.
وكان أعيان معتزلة البصرة من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من دعاته و أنصاره ويقول بعض المؤرخين: بايعه الأئمة من أهل عصره كمالك وأبي حنيفة ومن في طبقتهما.
خرج مع محمد جماعة من آل أبي طالب من أبناء الإمام علي ومن أولاد جعفر الطيار وخرج معه اثنان من أولاد زيد بن علي عيسى وحسين وخرج معه جماعة آخرون اعتقدوا إمامته وقتلوا على ذلك، ومنهم بعض من آل الزبير كعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير المتقدم ذكره، وقد خرج أكثر من خرج معه على أنه المهدي الموعود.