ويقول ابن طي.
- " خطب أبو الأسود امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء، فاسر أمرها إلى صديق، فحدث به ابن عم لها كان يخطبها - وكان لها مال عند أهلها - فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم، فأخبرهم خبر أبي الأسود، وسألهم أن يمنعوها من نكاحه ومن مالها الذي في أيديهم ففعلوا ذلك، فضاروها حتى تزوجت بابن عمها، فقال أبو الأسود الدؤلي (1) لعمري لقد أفشيت يوما فخانني * إلى بعض من لم أخش سرا ممنعا فمزقه مزق العمى وهو غافل * ونادى بما أخفيت منه فأسمعا فقلت ولم أفحش لعلك عاثر * وقد يعثر الساعي إذا كان مسرعا ولست بجازيك الملامة إنني * أرى العفو أدنى للرشاد وأوسعا ولكن تعلم أنه عهد بيننا * فبن غير مذموم ولكن مودعا حديث أضعناه كلانا فلا أرى * وأنت نجيا آخر الدهر أجمعا وكنت إذا ضيعت سرك لم تجد * سواك له إلا أشت وأضيعا " ويتناول القضية ذاتها مشبها إذاعة السر بالنار الموقدة عاليا مكثفا من حكمه:
أمنت أمرأ في السر لم يك حازما * ولكنه في النصح غير مريب أذاع به في الناس حتى كأنه * بعلياء نار أوقدت بثقوب فما كل ذي نصح يؤتيك نصحه * وما كل مؤت نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند واحد * فحق له من طاعة بنصيب " وأحيانا يأتي تناوله للقضية مركزا في موقف، ومنذ البداية. وذلك عندما تكون القضية عنده بالغة الشأن: حكم على صديقه، فقال له:: والله ما بارك الله لي في صداقتك، ولا نفعني بعلمك وفقهك... فقال أبو الأسود: (2) إذا كنت مظلوما فلا تلف راضيا * عن القوم حتى تأخذ النصف وأغضب أرادت ابنته نهيه عن الذهاب إلى فارس فقال: (3) إذا كنت معنيا بأمر تريده * فما للمضاء والتوكل من مثل توكل وحمل أمرك الله إن ما * تراد به آتيك فاقنع بذي الفضل لزم ابنه منزله قائلا: " إن كان لي رزق فسيأتيني "، فقال له أبو الأسود:
وما طلب المعيشة بالتمني ولكن ألق دلوك في الدلاء تجئك بملئها يوما ويوما * تجئك بحماة وقليل ماء وهذا الموقف من أبي الأسود يتناسب ونظره العقلي إلى الأمور. ولعل " وما طلب المعيشة بالتمني... " يذكر ب " وما نيل المطالب بالتمني " لشوقي. وأبو الأسود، في الشطر الثاني، دعا إلى الصراع ولكن على شكل صورة منتزعة من الحياة اليومية في حين أطلق شوقي " ولكن تؤخذ الدنيا غلابا " الحكم. وأحيانا كان يتناول القضية بطريقة سردية مشوقة ينتهي بتساؤل هو أقرب إلى التأكيد وكأنه يريد مشاركة الآخرين في إطلاق الحكم.
خدعته (5) امرأة فتزوجها وكانت على عكس ما ادعت، فجمع أقاربها وقال لهم:
أريت أمرأ كنت لم أبله * أتاني فقال اتخذني خليلا فخاللته ثم أكرمته * فلم استفد من لدنه فتيلا وألفيته حين جربته * كذوب الحديث سروقا بخيلا فذكرته ثم عاتبته * عتابا رفيقا وقولا جميلا فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا ألست حقيقا بتوديعه * واتباع ذلك صرما طويلا؟
بلى أنت حقيق بذلك! وحقيق أيضا بمزيد من الانتباه، لهذه النظرات العقلية إلى شؤون الحياة، وهي، وان كانت عقلية، تنبض بالحياة لأنها منتزعة منها. فهي حوادث معيشة تعمم وتجرد، دون أن تكتسب برودة التجريد ودون أن تفقد حرارة الحياة، وهذا ما يميز الجديد الأصيل في الشعر العربي عن الجديد المفتعل الذي أتى في عصور لاحقة. وهذا ما يجعلنا نقول:
إن أبا الأسود أتى بجديد مهم جدير بالدرس المفصل.
وأبو الأسود تلميذ الإمام علي في علمه وسلوكه، وهو من الذين استوعبوا الاتجاه الاسلامي للإمام، وكان من الأوفياء له وبقي كذلك حتى آخر حياته. وهو، في شعره، يصدر عن هذا الوفاء النابع عن إيمان بالله واقتناع بأن المذهب الشيعي إنما يمثل الاتجاه الاسلامي الصحيح. " كان بنو قشير يؤذون أبا الأسود لحبه عليا عليه السلام ويرمونه بالليل فإذا أصبح قال لهم: يا بني قشير، أي جوار هذا؟ فيقولون له: لم نرمك، إنما رماك الله لسوء مذهبك وقبح دينك!
فقال في ذلك:
يقول الأرذلون بنو قشير * طوال الدهر لا تنسى عليا!
فقلت لهم وكيف يكون تركي * من الأعمال مفروضا عليا؟
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا هوى أعطيته لما استدارت * رحى الإسلام لم يعدل سويا أحبهم لحب الله حتى * أجئ إذا بعثت على هويا رأيت الله خالق كل شئ * هداهم واجتبى منهم نبيا (6) الشاعر، في هذه القطعة، يبين لنا مذهبه ويبرر اختياره. وهي نظرة عقلية هذه التي أطل بها. يرى حبهم واجبا ومنذ استدارت رحى الاسلام، وهو يحبهم انطلاقا من حبه لله الذي اصطفاهم واختار منهم نبيه. والشاعر لم يكن متخذا موقفه لهذا السبب وحده وإنما لأسباب تتضح في هذه القطعة، كما يتضح فيها موقفه إزاء استشهاد الامام الذي لم يصبه باليأس ولا بالارتماء في أحضان الحزن وإنما بالدعوة إلى استئناف العمل بقيادة: " ابن نبينا وأخينا... " ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا أفي شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا وكنا قبل مقتله بخير نرى مولى رسول الله فينا