الغالبة في الشرق والغرب وإن قامت باسم بني هاشم وباسم آل محمد، ومن ذلك نعلم أن توازن القوى في هذا الكفاح المرير بين بني الحسن وبني العباس مفقود بالمرة.
إلى هذه الناحية من نواحي الضعف الظاهر في بني الحسن كان يشير الإمام جعفر بن محمد في نصايحه لبعض أبناء عمه والى ذلك - فيما نرى - مرد مناهضته لرأي من يرى الخروج منهم بالسيف على دولة بني العباس، والى ذلك أيضا مرد معارضته لبيعة محمد بن عبد الله النفس الزكية.
ليست هذه أول مرة ينصح فيها الامام أبناء عمه الحسن ويشفق عليهم من التطلع إلى الملك ويريدهم على العدول عن تلك الأماني، فإنه لم يأل العلويين نصحا في التجافي من شؤون الدولة في عصره والأعراض عن سفك الدماء في سبيلها، ففي طلب العلم والأحكام وفي تحصيل الأثر وبثهما في الدنيا ما يشغلهم عن ذلك، ثم أن دنيا بني العباس ودولتهم مقبلتان فأي جدوى في مقارعة العباسيين.
صحيفة الدولة كان جعفر بن محمد بحدسه الصائب ونظره الثاقب يستشف احداث المستقبل ولذلك كان أسد الهاشميين رأيا بمعارضته لبيعة النفس الزكية.
لا يخامرنا أدنى شك بما كان لهذا المنهج الذي يدعو إليه جعفر بن محمد وبما كان لسياسته السلمية البحتة من أثر بالغ في نفس أبي جعفر المنصور، فأعرض عن كثير من السعايات وضرب صفحا عن الكتب المزورة عنه إلى أنصاره في العراق وخراسان، وأية قيمة للدس والتزوير المفضوح بعد ما رآه و سمعه المنصور بنفسه مما أقنعه بان هذا الإمام برئ الساحة مأمون الناحية بعيد عن التهم المنسوبة إليه فلا عجب إذا كان لوفاته سنة 148 وقع أليم في نفس أبي جعفر المنصور على ما رواه فريق من المؤرخين وقد ابنه بكلمات تدل على مبلغ إكباره له.
لم يجنح بنو الحسن إلى رأي جعفر بن محمد، وكان لفريق منهم في وعظه ونصائحه مذهب آخر فهم يحملونه على الحسد، وهم يغلظون له القول أو يسمعونه خشن الكلام، وهم بعد ذلك لا يشكون بان انتزاع الأمر من يد العباسيين سهل يسير وأن الأمة تشد أزرهم في ذلك، فهذه الرسل والرسائل تترى عليهم من الأقطار ولا شك أن رسائل كثيرة وافتهم من مختلف الأقطار بيد أن شطرا من تلك الرسائل مصطنع بأمر أبي جعفر المنصور إذا استثنينا رسائل بعض الزعماء في الكوفة وفي مقدمتها رسالة أبي سلمة الخلال نقيب الدعوة في المشرق والعراق.
دعوة الكوفة وحركتها الجديدة جد لأبي سلمة الخلال زعيم الكوفة ونقيب الدعوة الهاشمية بعد استقرار العباسيين القادمين من الشراة إلى العراق رأى خطير في البيعة فاجابه علويي الحجاز، ووافت الحجاز رسل الزعيم المذكور ورسائله على عجل لجس نبض العلويين واحدا وقد رسم الخلال لذلك - أي لتحويل البيعة إلى العلويين من العباسيين - خطة دقيقة لا يرسمها إلا الدهاة من أصحاب الدعوة بيد أن آراء أهل المدينة تضاربت في قبول الدعوة وهو أمر لا مناص منه بعد هذه المفاجأة الجديدة.
كانت دعوة أبي سلمة هذه محكا للعلويين المقيمين في المدينة فقد انقسموا إلى فريقين فريق هش للدعوة واستبشر برسل أبي سلمة ورسالته ورأوا فيها فرصة سانحة لمناهضة بني العباس وأحقاق حقهم في الخلافة وعلى رأس هذا الفريق وجوه بني الحسن عبد الله وأبناؤه محمد وإبراهيم وموسى وعدد غير قليل من شباب آل أبي طالب وجمهور من أهل المدينة وفريق آخر قابل هذه الدعوة الكوفية الجديدة بأعراض تام، وأمامهم في ذلك جعفر بن محمد فإنه امتنع من فض الكتاب المرسل إليه وأمر باحراقه على مرأى من رسول الزعيم أبي سلمة الخلال، ولما طالبه بالجواب قال: الجواب ما رأيت، ثم شفع هذا الجواب بالإنكار على عبد الله بن الحسن ثقته واطمئنانه إلى مصدر هذه الدعوة ونصحه إلا يندفع وراء الخيال فان الأمر قد تم لبني العباس في العراق.
عصر بني الحسن، أو عصر الزيدية يصح أن يحدد عصر بني الحسن المذكورين بالفترة التاريخية الواقعة بين أواخر الدولة الأموية وأوائل العباسية، ففي هذه الفترة ظهرت دعوتهم إلى الخلافة في الشرق والغرب وأنهم أولى الهاشميين قاطبة - فضلا عن غيرهم بالإمامة - وإنها - أعنى الإمامة - إليهم انتقلت من بعد الإمام الحسين، وإن محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى هو الإمام، إذ كان أهله يسمونه المهدي ويقدرون أنه الذي جاءت به الروايات، كما كان بعض الطالبيين يرون أنه النفس الزكية، وإنما قيل له النفس الزكية لزهده ونسكه.
كان عبد الله بن الحسن أبو محمد المذكور - وهو وجه من وجوه الهاشميين في ذلك العصر - يعتقد اعتقادا جازما بامامة ابنه كما كان من أنشط القائمين بالدعوة إلى بيعته، أعانه على ذلك أنه زعيم هاشمي موهوب معسول الكلام حلو البيان حتى كان أمراء الدولتين الأموية والعباسية يحسبون حسابا لبلاغته و أثرها في النفوس، فهذا ابن عبد العزيز لم يشأ أن يبيت عبد الله بن الحسن ليلة واحدة في الشام - في رحلته إليها وافدا على ابن عبد العزيز - قائلا: " الحق بأهلك فإنك لم تبغهم شيئا أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك أخاف عليك طواعين الشام "، قال الجاحظ: " كره أن يروه وأن يسمعوا كلامه لعله يبذر في قلوبهم بذرا ويغرس في نفوسهم غرسا "، وكان أبو جعفر المنصور يصف كلام عبد الله بن الحسن بالسحر، ويقال ما ساير عبد الله بن الحسن أحدا إلا فتله عن رأيه، ولذلك استجاب لدعوته التي قام بها لابنه من استجاب من أهل الحجاز.
كثر أنصار بني الحسن وأتباعهم في هذا العصر من العلويين والطالبيين ومن غيرهم وبايعتهم فرق الزيدية، وخرج غير واحد منهم بالسيف على العباسيين شرقا وغربا، خرج محمد بن عبد الله المذكور في الحجاز وتلاه أخوه إبراهيم الثائر على المنصور في العراق وثار أخوهما يحيى بن عبد الله في المشرق أو في بلاد الديلم وثار أخوهم الرابع إدريس على الرشيد في المغرب الأقصى أو في مراكش وفي أقاليم البربر المجاورة للجزيرة الأندلسية الخضراء، وكان إدريس أكثر اخوته نجاحا في خروجه على الدولة العباسية - كما سنراه عن قريب - بيد أن عبد الله بن الحسن كان معنيا أشد العناية بحمل أبي عبد الله جعفر بن محمد على التآزر مع بني الحسن وقصده غير مرة من أجل الدخول معهم في البيعة لابنه إلا أنه عجز عن إقناعه ولم يخرج من محاورته ومداورته بشئ.
كانت حجة جعفر بن محمد أبلغ ورأيه أسد وأصوب، ولهذا لجا بعض الطالبيين وأنصارهم من الزيدية إلى الشدة مع الإمام المذكور، تولى ذلك - في رواية مشهورة - عيسى بن زيد بن علي المعروف بمؤتم الأشبال، وكان عيسى هذا في أوائل من استجاب لدعوة بني الحسن مع أنه ابن عم جعفر بن محمد ومن أقرب العلويين نسبا إليه.