ومن السهل تعليل هذا التأييد الذي لقيه محمد بن عبد الله من العلويين والطالبيين وغيرهم وكذلك الانحراف الذي مني به المنصور والعباسيون فإن مردهما إلى الاعتقاد أو إلى القول بالإمامة فإننا نعرف عن أولئك الفقهاء ونقلة الأثر والحديث في ذلك العصر وأمثال هؤلاء - ممن اعتزل الحكم وتجرد للتفقه والنسك والعبادة - أنهم يرون أن مناصب السياسة أهون من أن تراق في سبيلها ملء محجمة من الدم، ولما كان الأمويون ومن بعدهم العباسيون على النقيض من ذلك في عدم التحرج من سفك الدماء في سبيل الملك والسلطان لم يسع أولئك إلا المجاهرة بالخلاف والخصومة العنيفة، وعقد غير واحد من المؤرخين فصولا خاصة سموا فيها من أجاب دعوة محمد بن عبد الله أو خرج معه من أعيان ذلك العصر وأئمته في عدة من الأقطار، وهي فصول تصلح للاحتجاج على متانة مركز بني الحسن من الناحية المعنوية في العصر المذكور وأن اضطربت آراء فريق من وجوه الطالبيين في خروجه وامتنع من امتنع منهم عن تأييده.
عمال محمد بن عبد الله أرسل محمد قبل ثورته وبعدها عماله ودعاته إلى مكة والى الشام واليمن والعراق، ومن أشهر هؤلاء العمال والدعاة أخواه إبراهيم بن عبد الله وجه به إلى العراق قبيل ثورته وموسى ويعرف " بموسى الجون " في كتب الأنساب، وقد استعلمه على الشام، ومنهم محمد بن الحسن بن معاوية من أحفاد جعفر بن أبي طالب استعمله على مكة ويظهر من قوائم المؤرخين التي وردت فيها أسماء عماله أنه اختارهم من ذوي قرباه ولم يكتب لأكثر هؤلاء العمال نجاح يذكر في الأقطار المذكورة، فهذا عامله على مكة لم يقم إلا يسيرا فيها حتى استدعاه محمد لما خرج إليه عيسى بن موسى ولكن محمدا قتل وعامله هذا في طريقه إلى المدينة فهرب إلى العراق ولحق بإبراهيم بن عبد الله وأقام عنده حتى قتل، وقد مني موسى أخو محمد وعامله على الشام بالفشل أكثر من غيره، تجهمه أهل الشام واستقبلوه استقبالا رديا وكان أثر الرعب والوجوم باديا على القوم منذ زوال الدولة الأموية واستئصال أمرائها وأبادتهم. تدلنا على ذلك رسالته التي بعث بها إلى أخيه من دمشق وقد جاء فيها: " أخبرك أني لقيت الشام وأهله فكان أحسنهم قولا الذي قال: والله لقد مللنا البلاء وضعفنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غد ليرفعن أمرنا، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي وخفت على نفسي " وقد ترك موسى الشام بعد رسالته هذه إلى المدينة وقيل إلى البصرة - وهو الأصح فيما نرى - والمرجح أنه ترك الشام بعد أن حوصر أخوه في المدينة وذهب رأسا إلى البصرة ملتجئا إلى قريبه محمد بن سليمان العباسي في البصرة ولكن هذا وبخه توبيخا شديدا وجبهه بكلمات نابية تدل على اضطراب ورعب من المنصور، وقد أشار المؤرخون إلى مصير موسى بعد وصوله إلى العراق وسجنه في أيام المنصور والإفراج عنه في عصر ابنه المهدي وذكروا أنه عاش إلى أيام هارون الرشيد وله معه أحاديث لطيفة هذا ولم يغفل المؤرخون أسماء ولاة محمد بن عبد الله وقضاته على المدينة ووزرائه في إدارة الشؤون الحربية والمالية والقضائية.
إبراهيم يثار لأخيه في العراق هرب عدد من أقرب المقربين إلى محمد بن عبد الله - بعد مقتله سنة 145 - وعدد من ولاته وعماله إلى البصرة، وقد اشتملت باديتها على كثير من أنصار بني الحسن عقدوا البيعة لأخيه إبراهيم بن عبد الله ونادوا وأعلنوا الخلاف على الدولة العباسية.
يعد إبراهيم بن عبد الله - أخو النفس الزكية - من أشهر رجال بني الحسن علما وفقها لم يملأ عين المنصور بعد أبيه وأخيه غيره من بني الحسن، وله ضلع في الأدب ويروى له شعر، ومن رأى بعض المؤلفين في الأدب والتاريخ " أن المفضليات " من جمع إبراهيم بن عبد الله جمعها من دواوين العرب لما كان مختفيا في منزل " المفضل الضبي " فلما قتل إبراهيم نسبت المفضليات إلى المفضل المذكور، وكان المفضل زيديا ومن رواة حديثه وشعره كما كان إبراهيم يكثر من الإقامة عنده.
كنز المادحون من الشعراء لإبراهيم، ومن مداحه بشار بن برد، وحسبنا من شعره في إبراهيم قصيدته السائرة التي تعد من عيون الشعر العربي وفيها يقول:
أقول لبسام عليه جلالة غدا * أريحيا عاشقا للمكارم من الفاطميين الدعاة إلى الهدى * سراج لعين أو سرور لعادم أتى إبراهيم نعي أخيه فخرج وأخبر الناس في البصرة، وكانت البصرة موالية له جدا كما كان البصريون من أكثر أنصاره وأشدهم انقيادا وطاعة له، ولإبراهيم كلمة بليغة في الثناء على البصريين لايوائهم إياه مع أصحابه وقد أتخذ أصحابه من هذه الكلمة شعارا لهم وأنشودة ينشدونها، وقد جاء في ختام الكلمة قوله: " إن أملك فلكم الجزاء وإن أهلك فعلى الله الوفاء ".
توالت على المنصور الفتوق - بعد خروج إبراهيم - من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد إلى جانب كثير من أهل الكوفة، ويبدو لنا أن كثيرا من زعماء العراق في الكوفة وفي الموصل وغيرهما مالوا إلى إبراهيم وبايعوه وقد أجمع المؤرخون على أن إبراهيم وجم واغتم بخروج أخيه وأمره إياه بالخروج فلعله كان يرى خروجه مبتسرا أي قبل أوانه، ويفهم أن المنصور أكثر من استشارة رجال دولته في أمر إبراهيم وخروجه، وقد أخذ برأي من ارتأى منهم بان يقاتله بجند من أهل الشام لأنهم لا يميلون إلى آل أبي طالب بخلاف العراقيين.
استولى إبراهيم على واسط والقسم الجنوبي من العراق وأرسل إلى تلك الجهات عماله، بايعه أهل واسط بعد البصريين وبايعه الزعماء والفقهاء ولم يبق أحد إلا تبعه وقد سمى أبو الفرج جميع من خرج معه من الفقهاء والمحدثين ونقلة الآثار وكانت وجهته الكوفة وفيها المنصور، ويلاحظ أن كثيرا من أصحابه لا بصر لهم بفنون الحرب ولكنهم شجعان وقد وقعوا في هفوات حربية إليها مرد ظفر الجيش العباسي، وبعض هذه الغلطات الحربية في واقعة " باخمرى " أدت إلى مقتله وتشجيع جيش أبي جعفر المنصور على الثبات بعد الهزيمة، وعلى كل حال كانت ثورة إبراهيم في العراق أخطر من ثورة أخيه في المدينة، وبين الثورتين فروق أخصها أن ثورة إبراهيم ألحقت بالدولة العباسية خسائر كبيرة في الأموال والأرواح وهي أضعاف ما ألحقته ثورة أخيه المذكورة وكانت وقعة باخمرى قريبة من الكوفة وفيها سرير المنصور.
نقلة الآثار يؤيدون الثوار خرج مع إبراهيم عدد غير قليل من أهل العلم والفقه ونقلة الآثار سماهم وترجم لهم أبو الفرج الأصفهاني، كما أفتى بالخروج معه فقهاء آخرون سماهم غير واحد من المؤرخين كابن سعد والطبري، وقد عللنا فيما مر تأييد أهل الفقه والنسك في صدر الدولة العباسية للثائرين عليها من العلويين، ومرد ذلك إلى هوان السياسة وطلب الملك والدولة على هذا الفريق من الفقهاء والنساك وإن ذلك فيما يرون أقل شانا من أن تراق في سبيله الدماء وأحرى أن يركن بسببه إلى العزلة والانزواء فقد