والهدايا منهم شيئا من الغضاضة لذلك نرى أبا العباس السفاح رضخ للوفد بمبالغ طائلة من المال، ومن أهم العوامل في هذا السخاء أن المال كان ينفق في الحجاز وهو بلد قاحل جل سكانه من ذوي الفقر والخصاصة ولكنه مهبط الوحي ومبعث الرسالة.
هذا ولا بد لنا من القول: أن السفاح أظهر قلقا ووجلا عظيمين من تخلف المتخلفين من شباب بني الحسن وفي مقدمتهم الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله فألحف في الاستفسار عنهما وعن أسباب تخلفهما، ومن حق السفاح ان يساوره القلق فإنهما تخلفا لأمر عظيم إذ كان محمد بن عبد الله مشغولا ببث الدعوة لنفسه في الحجاز والعراق وفي الأهواز وفارس وفي أقطار أخرى - وكان له ولأنصاره نشاط ملحوظ في هذه الأقطار يجري أكثره في الخفاء وان لم يخف على عيون بني العباس - كما كان معنيا باعداد عدته للخروج، ولم يكن الغرض من ذلك الالحاف تفقدا أو حبا وانما هو الاطمئنان والوقوف على مذهب الأخوين أو نيتهما في طلب الخلافة، وفي وسعك أن تحكم على سياسة السفاح ومبلغ مجاملته لبني الحسن من تظاهره بقبول المعاذير عن الأخوين الغائبين على مضض فإن الحسن المثلث أفهم السفاح بان محاولاته في الوقوف على أمرهما من العبث، ولذلك أراح السفاح نفسه باليأس من الظفر بالأخوين بعد الحديث المذكور مع أضيافه فأعرض عن طلبهم إلى أن فرق بينهم الموت، وتعزى مجاملته لبني الحسن إلى خبرته بدخائل بني عمه الهاشميين وإلمامه بما يخالج نفوسهم من الشعور بالأنفة، ولذلك نرى كثيرا من هؤلاء الطالبيين والهاشميين يخاطبون خلفاء بني العباس مخاطبة النظراء الأكفاء أو مخاطبة الأنداد، وقد يرون في آل عباس أتباعا لا متبوعين ومرؤوسين لا رؤساء فيما مضى من خلافة الإمام علي وبعض الأئمة من أبنائه، قمن أشق الأمور على وجوه العلويين أو الطالبيين أن يروا أنفسهم تابعين مرؤوسين للعباسيين بعد ذلك، وقد تعزى المجاملة المذكورة فيما تعزى اليه إلى تأثير عبد الله بن الحسن نفسه فقد اشتهر - كما مر بك - أن لحديثه تأثيرا كتأثير السحر في النفوس حتى كان الأمويون والعباسيون يحسبون لبلاغته وعارضته وملاحة أحاديثه حسابا.
بنو الحسن في عصر المنصور كان استخلاف المنصور بعد أخيه السفاح ايذانا بالانتقال إلى عصر جديد يمتاز بشدته المتناهية واجتناب سياسة اللين والتهدئة وتفضيل الحلول الحاسمة على انصاف الحلول، والواقع أن المنصور واجه في مستهل خلافته اخطارا شتى منها القريب ومنها البعيد عني بدفعها عن الدولة، فهذا عمه الأمير الظافر عميد العباسيين بعد السفاح وقائد جيشهم وقاتل مروان الجعدي يمتنع من بيعة المنصور ويزحف على العراق مدعيا أن السفاح عهد بولاية العهد لمن يظفر بالأمويين وهو الظافر بهم غير مدافع ولذلك فهو أولى العباسيين بهذه الولاية، وهؤلاء بنو الحسن وأنصارهم في كل مكان لا يرون في بني العباس أهلا للبيعة بل يرون فيهم غاصبين ناكثين بالعهود والمواثيق ولا بد لهم من وثبة على هؤلاء الناكثين الغاصبين، ثم هذه الفتن الناجمة والخوارج الخارجون في شتى الأقاليم.
لا شك ان المنصور واجه هذه الأحاديث والفتوق في مستهل خلافته بجأش رابط وعزيمة ماضية فتغلب على عمه بأبي مسلم الخراساني ثم ثنى بأبي مسلم ففتك به وبأنصاره ثم قمع فتنا شتى في الشرق والغرب تفرع بعدها لمناجزة بني الحسن وقد كونت حركتهم خطرا من أعظم الأخطار على الدولة، وكان هذا الخليفة في كل هذه الأحداث ثابت الجنان يعتمد على القوة ولا محل عنده للعفو والرحمة.
ومن رأي أبي جعفر المنصور ان الأساس الذي قامت عليه دولة بني العباس وأخذت بموجبه البيعة لخلفائهم لم يزل مهددا بالانهيار إذا أصر بنو الحسن على المطالبة بحقهم في البيعة - وانهم لمصرون فعلا - طبقا لذلك الميثاق الذي اتخذه الهاشميون في أيام بني أمية والى هذا الميثاق يستند بنو الحسن ومحمد بن عبد الله في طلب البيعة وانها لبيعة يعرفها العرب والهاشميون بأسرهم في ذلك الحين، وأول من عقدها للنفس الزكية هو السفاح، ويقال أن المنصور بايعه مرتين إحداهما بمكة في المسجد الحرام فلما خرج أمسك له بالركاب ثم قال: " اما انه أن أفضى إليك أمر نسيت لي هذا الموقف، ومن هذا نعلم أن مناط السياسة ومحورها الذي تدور عليه في مذهب المنصور هو المصلحة لا غير، فهو يساوم ويماكس ولا يقيم وزنا لغير هذا النوع من السياسة سياسة المنفعة لا سياسة العاطفة.
كان خبر هذه البيعة - بيعة المنصور للنفس الزكية - من جملة الأخبار المشهورة المتعالمة في ذلك العصر، ومن الأدلة على ذلك حديث عثمان بن محمد بن الزبير مع أبي جعفر المنصور، وهو حديث يدل على ثبات نادر وجرأة بالغة، كان عثمان هذا من وجوه أصحاب محمد ولي الشرطة له وله ذكر في بعض كتب الأخبار، وقد هرب إلى البصرة بعد مقتل صاحبه فحمل منها إلى المنصور فقال له " هيه يا عثمان " أنت الخارج علي مع محمد؟ " قال: " بايعته أنا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك " قال: يا ابن اللخناء، قال: ذلك من قامت عنه الإماء - يعني المنصور - فامر له فقتل، وهذا الحديث يدل على أثر العقيدة في هذا الضرب من أصحابه محمد بن عبد الله وعلى تفانيهم في ولائه والاخلاص له.
أضف إلى ما تقدم ما تناهي إلى علم المنصور من أن للعلويين أو لبني الحسن في كثير من الأقطار أنصارا يدينون لهم بالولاء ويبعثون لهم بزكاة الأموال ومختلف الألطاف ويعنون كثيرا باخبارهم ويتحدثون بأحاديثهم، ومن هؤلاء من يرى رأي الزيدية في الخروج، ومنهم من يرى موالاة هؤلاء العلويين على كل حال، وكانت للقوم هيبة ومكانة في صدور الناس، وإلى تلك المكانة الرفيعة والبيعة القائمة لبني الحسن في أعناق الأول من بني العباس مرد هذا الحرص من المنصور على الظفر بمحمد وبأخيه إبراهيم ليطمئن على ملكه الجديد ويقيمه على الأساس الذي يريد، وقد تذرع إلى تحقيق بغيته بشتى الوسائل ونصب مختلف الحبائل.
يدهش المتأمل في سيرة المنصور لعنائه البالغ بعد استخلافه - وقبل ذلك أيضا - بالتضييق على وجوه بني الحسن، كان ذلك شغله الشاغل أينما حل، ملأ الجزيرة بالعيون والأرصاد وبذل الأموال الطائلة وفرق الأعراب يفتشون عنهم في البوادي وكان أولئك العيون والأرصاد يتلقون تعاليم دقيقة من المنصور.
والحقيقة أن بني الحسن من ناحيتهم - وقد عقدوا النية وصمموا على الخروج - أذكوا لهم عيونا وجواسيس يوافونهم باخبار المنصور بل كان إبراهيم بن عبد الله نفسه يتغلغل في مملكة المنصور وفي قواعده العسكرية في الشام والعراق، ويروى انه تناول الطعام على مائدة المنصور مرة وحضر مجلسه متنكرا، وقد بلغ المنصور بذلك إلا أنه عجز عن الظفر به، ويلاحظ أن عامة الناس في العراق كانوا يساعدون إبراهيم على الافلات والنجاة، وكان المنصور يقول: " غمض علي أمر إبراهيم لما اشتملت عليه طفوف البصرة ".
عزل المنصور ولاة المدينة واحدا بعد آخر لفتورهم في طلب القوم ونسب هؤلاء الولاة إلى الغش والمداهنة، والواقع أنهم دهشوا وأخذتهم الحيرة من هذا الولاء البالغ الذي ينعم به هؤلاء العلويون في الحجاز وتفضيل القوم لهم على