لا نريد الإطالة، وإنما هي بعض إيحاءات هذا البيت الذي لم نبحث عنه كي نجده، إذ أن أمثاله كثير في ديوان مهيار الضخم.
ولنقرأ هذه الأبيات متوقفين لدى " سحر الألفاظ " وروعة الصور وسمو العاطفة وعمقها:
أعير المنادي باسمها السمع كله * على علمه أني بذاك مريب وكم لي في ليل الحمى من إصاخة * إلى خبر الأحلام وهو كذوب وما حب مي غير برد طويته * على الكره طي الحرث، وهو قشيب أحين عسا غصني طرحت حبائلي * إلي، فهلا ذاك وهو رطيب وما كان وجه يوقد الهم تحته * لتنكر فيه شيبة وشحوب كثيرة هي خطوب الدهر التي توقد الهم، مر بنا عيش مهيار لبعضها ويضيف إليها، في هذا المقام، هم جديد، وهو هم الشعر الذي يقول عنه مهيار، مخاطبا أحد الوزراء:
- وتحمون البلاد وفي ذراكم * حريم الشعر منتهك سليب هم الشعر أو حماية الشعر من الانتهاك والسل هم مؤرق كبير، وبخاصة لمن يمتلك رؤية ويلتزم مبادئ ويريد لشعره أن يكشف على أضواء هذه الرؤية وأن ينبثق عن هذه المبادئ. إن من يحمل هذا الهم يغدو، في زمن مثل زمن مهيار، مثل هذا الذي يصوره الشاعر بقوله:
أما جنى خيرا له آدابه * أعاذكن الله من شر الأدب هو الذي أخرني مشارف * السبق، فاظما شفتي على القرب، - تجمع بين الماء والنار يد * وما جمعت الرزق والأديبا ولا يرى مهيار هذا امرا عجبا، فيقول وكأنه يعزي نفسه:
لا تحسب الهمة العلياء موجبة * رزقا على قسمة الأقدار لم يجب لو كان أفضل من في الناس أسعدهم * ما انحطت الشمس من عال عن الشهب 8 - غريب في باب الله إنه إيمان بالقدر، ومثل هذا الايمان قد يجعل الوحدة والغربة ممكنتين تظما شفتا مهيار على القرب... تروقنا الصورة الحسية المنتزعة من صميم الحياة ونكاد نصرخ ما أروعها، ولكننا ندرك أن ما يمتاز به من مواهب ومناقب ورؤى أوصله إلى هذا الظمأ، وعندما يمد يده إلى الخلان يصاب بالخيبة، ويعبر عن خيبته في صورة رائعة أخرى منتزعة من صميم الحياة أيضا فيقول:
تستحفل الضرع فأن لامسته * عاد بكيئا جلده بلا حلب إن إنسانا يعيش مثل هذا الواقع يحس إن عاده أحدهم في مرض أو تفقده كأحمد بن عبد الله الكاتب أن هذا صنيع غريب، فيخاطبه عندما يفعل هذا:...
ولا تعدم الدنيا بقاءك وحده * فإنك في هذا الزمان غريب يسلم الشاعر أمره للدهر، ثم نلحظ في ابيات كثيرة عدم اهتمامه بأمور الدنيا مثل قوله:
تلاعبت بي يا دهر حتى تركتني * وسيان عندي جد خطب ولعبه ولكننا نلاحظ أيضا أن استسلام مهيار ليس استسلاما عبثيا يائسا، وإنما هو يسير مسلما أمره، في رحلة هذه الحياة ذات الفضاء الواسع لله، كما يقول:
وقلت: باب الاله إن ضقت مفتوح، وهذا الفضاء متسع 9 - كلمة أخيرة وأعتقد أننا، من خلال هذه القراءة السريعة في ديوان مهيار الديلمي استطعنا أن نشير إلى مكونات أساسية في شخصيته وإلى عناصر مركزية في رؤيته، فضلا عن إماطتنا اللئام عن بعض المشكلات وقد يكون في هذا الصنيع مدخل لدراسات أرحب تحيط وتتعمق، ومهيار بهذا جدير.
رأي في مهيار الديلمي يقول حسن الأمين: كان المؤرخ المصري الدكتور محمود علي مكي قد نشر بحثا عن التشيع في الأندلس، فكتبت إليه بملاحظاتي على ما كتب، فأرسل إلي رسالة تعرض فيها لذكر مهيار قال فيها:
كان موضوع التشيع يستهويني إذ كنت مشتغلا به من قبل، وذلك منذ تخرجي من كلية الآداب في جامعة القاهرة كنت متوفرا على دراسة شاعر ما زال في نفسي حنين إلى العودة إليه، شاعر ما زلت اعتبره أعظم شعراء العربية على الاطلاق، هو مهيار الديلمي الذي كنت في ذلك الوقت احفظ معظم ديوان شعره، ولست انفك حتى الآن أردد النظر في قصائده ولا سيما شيعياته التي اعتبرها من غرر شعر العقائد بما فيها من حرارة العاطفة ونصاعة البراهين والمقدرة على الحجاج، وما زلت حتى الآن أترنم في الأوقات التي أخلو فيها إلى نفسي بعينيته:
هل بعد مفترق الأظعان مجتمع * أم هل زمان بهم قد فات يرتجع أو بداليته:
بكى الناس سترا على الموقد * وغار يغالط في المنجد أو بلاميته:
سلا من سلا من بنا استبدلا * وكيف محا الآخر الأولا وما أشد شوقي إلى أن أعود إلى مهيار وأتوفر عليه مرة أخرى بعد أن قطعتني عنه دراساتي الأندلسية واقتحامي ميادين أخرى بعيدة عن ميدان ذلك الأدب الشيعي الذي كان يستهويني كثيرا من قبل.
من شعره وقال وأنشدها الأمير سند الدولة أبا الحسن بن مزيد في داره بالنيل هب من زمانك بعض الجد للعب * واهجر إلى راحة شيئا من التعب ما كل ما فات من حظ بليته عجز، ولا كل ما يأتي بمجتلب لا تحسب الهمة العلياء موجبة * رزقا على قسمة الأقدار لم يجب لو كان أفضل من في الناس أسعدهم * ما انحطت الشمس عن عال من الشهب أو كان أسير ما في الأفق أسلمهم * دام الهلال فلم يمحق ولم يغب يا سائق الركب غربيا وراءك لي * قلب إلى غير نجد غير منقلب تلفتا، فخلال الضيق متسع * ورب منجذب في زي مجتنب قف ناديا آل بكر في بيوتكم * بيضاء يطربها في حسنها حربي لما رأت أدمة نكرا وغائرة * شهباء راكضة في الدهم من قضبى لوت - وقد أضحكت رأسي الخطوب لها - * وجها إلى الصد يبكيني ويضحك بي لا تعجبي اليوم من بيضائها نظرا * إلى سنيي، فمن سودائها عجبي