كما أن الحياة تفقد معناها إن لم يحقق الانسان ذاته ويصنع مشروعه:
فما الحياة، وإن طالت، بصالحة * لمن يعد متاعا بائرا سقطا ما خطه العجز و الأرزاق معرضة * إلا لمن نام تحت الذل أو قنطا ويدرك مهيار أن تحقيق الذات وصنع مجدها يتطلبان صراعا مع الدهر يقتضي مخاتلته واقتناص الفرص منه فنسمعه يقول:
لا تفرط جلوسا بانتظار غد * خاتل يد الدهر وانصل غيله أبدا 4 - في دروب الحياة: وجه يوقد الهم تحته ويكون صراع مهيار مع الدهر صراعا مريرا، تتكون لديه آمال ويسعى حادا إلى تحقيقها ظانا أن اخوانه يساعدونه، ثم يذهب هذا كله هباء وتتكرر الخيبة، فيعبر مهيار عن هذا الصراع ونتائجه:
كم يوعد الدهر آمالي ويخلفها * أخا أسر به، والدهر عرقوب وتتكرر ذنوب الأيام، فيعجب ويرجو بحسرة أن يحيا أياما تعد ذنوبها:
وليست الذنوب ذنوب الأيام فحسب وإنما هي ذنوب الناس أيضا، الذين غدوا صخورا لا تلين، وقد نلتفت إلى نظرة مهيار التي رأت تحول الإنسان الذي فقد جوهره أو إنسانيته، إنه لم يعد إنسانا وإنما صخرة:
يقولون دار الناس ترطب أكفهم * ومن ذا يداري صخرة ويذيبها والحق ان مهيار ما كان غافلا عن حقيقة الزمان والناس وطبيعة العلاقات الاجتماعية، كان يدرك هذا كله تمام الادراك:
وما أطمعتني أوجه بابتسامها * فيؤيسني مما لديها قطوبها وكان يدرك أيضا سبل الوصول ووسائل نيل المطالب في ظل المجتمع الذي يعيش فيه:
وفي الأرض أوراق الغنى لو جذبتها * لرف على أيدي النوال رطيبها ولكن هذه السبل ليست سبله كما أنه لا يرضى اتباع تلك الوسائل إن في المرعى لأوراقا خضراء يانعة ولعشبا طريا ولكلأ خصيبا شهيا ولكن ما نفع هذا كله إن كانت الإبل الجائعة تأنف من هذا كله وتمجه إن مهيار الديلمي يرفض سبلا تحقق الذات ويرتضي سبلا أخرى وشتان ما بين دربي الوصول إلى " مرمى العز "، ولنسمعه يشير إلى هذا في صورة حسية مقتلعة من الواقع، وكأنها تضع الحقيقة أمامك مصورة فتراها وتلمسها:
إذا إبلي أمست تماطل رعيها * فهل ينفعني من بلاد خصيبها يسعى مهيار إلى المجد، ويجد في سبيل ذلك مصارعا الدهر، ويعي سبل الوصول ولكنه بدلا من أن يمتطي مطايا الركب يشكو الزمان والناس. فلم الشكوى؟ ولماذا لا يحقق ما يصبو إليه وبخاصة أنه يرى الحياة القانعة من دون قيمة؟
ليس من شك في أن هذا السؤال الذي تثيره قراءتنا لتجربة مهيار مع الدهر سؤال كبير، وهو لا يخص مهيار وحده، وإنما يعني الإنسان في كل زمان ومكان، إذ انه يثير مشكلة الانسان وسلوكه في هذه الحياة سواء أ كان ذلك من حيث طبيعة هذا السلوك أم من حيث أهدافه وسبل تحقيق هذه الأهداف وتعارض ذلك أو توافقه مع التوجه العام وحقوق الآخرين.
يسمي مهيار ما يصل إليه الناس من مناصب وغنى " حظوظا "، وهو يعرف الطرق إلى هذه الحظوظ، ولكنه يرفض أن يسلكها، والأمثلة التي تؤكد هذا كثيرة نذكر منها:
- ويا نيل الحظوظ، أما إليها * بغير مذلة منها طريق - فلو قنن الجبال زحفن جنبي * وقعن أخف من منن الرجال - فما تراني أبواب الملوك مع الزحام * فيها على الأموال والرتب - وعابوا على هجز المطامع عفتي * وللهجر خير حين يزري بك الوصل ويبدو مهيار، في موقفه هذا، منسجما مع نفسه، فيناقشه مع فتاته وفق مبادئ أساسية ينطلق منها في سلوكه، تلومه فتاته فيجيب:
وقد كنت ذا مال مع الليل سارح * علي، لو أن المال بالفضل يكسب ولكنه بالعرض يشرى خياره * وينمي على قدر السؤال ويخصب وما ماء وجهي لي إذا ما تركته * يراق على ذل الطلاب وينضب في ما قرأناه كشف لواقع ورفض له وأنفة عن الانخراط في جموعه وعن الوقوع في شباكه، ويندرج هذا الموقف في إطار رؤية شاملة تنظر إلى الإنسان بوصفه سيد المخلوقات، وقد خلق حرا يجهد لتحقيق غاية كبرى، وهذا كله ليس ملكه وليس من حقه أن يفرط فيه ويريقه في غير ما خلق له ينطلق مهيار إذا في دروب المجد من مفهوم سر الخلق ومن أن الله كرم الإنسان وعلى الإنسان أن يحافظ على ما أودع الله فيه، وانطلاقا من هذا المفهوم يبقى ظمانا، يعرف دروب الري، ويرفض سلوكها لأن المذلة فيها والمذلة أشد حرارة وأقسى ولنقرأ هذا البيت ولنلاحظ الصورة فيه والتلاعب بالأضداد وفي هذا إضاءات وإيجاءات تسكن الحالة في القلب حارة الطلوع من تنور المعاناة:
أظمى، وريي في السؤال، ولا يفي * حر المذلة لي ببرد الماء ويدرك مهيار نتائج موقفه، ويلمس الواقع الذي توصله إليه خياراته ولكن لا يأبه لهذا، إذ ان له مقاييس تختلف عن مقاييس الآخرين، فليس مهما ما يجري في الخارج، فالمهم ما يجري في داخل الذات الانسانية، المهم أن يبقى الجوهر صافيا وأن يبقى الهم دافعا ومؤرقا:
وإن هوى بي أو حطني حمق * الحظ، فهمي يسمو ويرتفع، ... نفسي أحجى من أن تحلم * بالوعظ، وقلبي بالمجد مضطلع، والواضح أن مهيار يعي أن معركته المريرة مع الدهر طويلة، وأن سبله شاقة، فيختار الصبر الذي يكشف ويحرض ويدل على الصواب:
- لله قلب حسن صبره * ما سئل الذلة إلا أبى - شفى الله نفسا لا تذل * لمطلب وصبرا متى يسمع به الدهر يعجب وصدرا إذا ضاقت صدور رحيبة * لخطب تلقاه باهل ومرحب ولا يكون صبر مهيار العجيب مسالمة للدهر وركونا لأحداثه وناسه، وإنما هو نوع من تعرف " جريح زمانه " إلى سبل مداواة قروحه والانتصار عليها سالمت دهري قبل أعلم أنه * فيمن يهادنه السلامة طامع فالآن أصميه بسهم ما له * في قلبه إلا المنية نازع