مكانه الجماعة: القبلية أو الشعب وما يعنيه هذا من علاقات بين القبائل والشعوب.
ويثير السؤال عن الحسب، في مثل حالة مهيار، قضية كبرى كثر الحديث عنها وهي قضية السيد والمولى، وتثيره أسئلتها فيفخر بنسبه ومجد قومه القديم فيقول:
لا تخالي نسبا يخفضني * أنا من يرضيك عند النسب قومي استولوا على الدهر فتى * ومشوا فوق رؤوس الحقب مؤكدا أن هذا الانتماء القديم لا يخفضه، ولنلاحظ اختياره لهذه الكلمة التي تركز على المشكلة فكأنه يقول إن انتماءه إلى فارس لا ينقص من قدره فقومه قديما فعلوا وفعلوا... ثم يعلن هويته الحقيقية وانتماءه:
قد قبست المجد من خير أب * وقبست الدين من خير نبي ويكون بهذا قد جمع المجد من أطرافه:
وضممت الفخر من أطرافه * سؤدد الفرس ودين العرب تعد قضية الانتماء أو قضية هوية الإنسان، أهم قضايا الفرد في كل عصر وقد كانت على قدر من الأهمية كبير في تلك الفترة من فترات التاريخ العربي الاسلامي وذلك لاشتداد الصراع بين العرب وعناصر ذلك المجتمع، هذا الصراع الذي أبرز أشكالا عديدة: سياسية واجتماعية وثقافية، ولعل من أهم هذه الأشكال ما عرف باسم " الشعوبية ".
لن ندخل في مشكلات هذه القضية التي قيل فيها الكثير ولكننا لن نهمل فيها ما يتعلق بموضوعنا، إذا اننا سنعمد إلى طرح السؤال الذي يعنينا هنا محاولين الإجابة عنه في مقاربة مباشرة لا تهتم باي إسقاطات ذاتية كانت أم خارجية والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان اعتداد مهيار بنسبه الفارسي يندرج في إطار الحركة المناهضة للعرب أو أنه كان موقفا أملته معطيات مرحلة تاريخية كان لمهيار رؤيته المميزة لقضاياها ومسائلها؟ وهل كانت هذه الرؤية المميزة منبثقة من رؤية شاملة للكون والعالم؟ وما هي طبيعة هذه الرؤية الشاملة ليس من شك في أن مهيار يذكر ماضي قومه ومجدهم ويذكر بذلك ويعلنه ففضلا عما أثبتناه له قبل قليل، نثبت هنا مثالا آخر، وهو قوله:
... من بها ليل أنبتوا ريشة الأرض، وربوا عظامها والجلدا، ... بين جم وسابور أقيال *، يعدون مولد الدهر عدا، والملفت أن ذكر مهيار لأمجاد قومه والتذكير به يندرج في إطار التأكيد أن نسبه هذا لا يخفضه كما مر بنا آنفا، وكأنه يرد على من ينتقصه ويزري به بسبب من هذا النسب، والملفت أيضا في موقف مهيار أنه يتجاوز هذا التذكير الدفاعي سريعا لينظر إلى التاريخ: الفارسي والعربي والاسلامي أيضا نظرة تقويمية فيشيد بما يراه جيدا ويتبناه وفق فهمه لأحداث التاريخ ومجرى الحياة. إنه يذكر للفرس فضائلهم، ومنها، على سبيل المثال، العدل وحسن التنظيم، فيقول:
سير العدل في مآثرهم تروى * وحسن التدبير عنهم يؤدى وقد مر بنا إعجابه بالعديد من فضائل العرب كالوفاء وحسن الجوار ورفض الظلم والاباء ونورد هنا، على سبيل المثال، تقديره مشاعر العرب الإنسانية وصدق حنينهم فيقول:
وحننت نحوك حنة عربية * عيبت، وتعذر ناقة إن حنت ويبدو مهيار، في موقفه هذا، إنسانا متجردا عن الأهواء الشعوبية يطل على العالم وينظر إلى قضاياه ومسائله ويتأملها ويعلن ما يراه حقا ومصيبا وفق أسس تحدد انتماءه الحقيقي فلنحاول أن نتعرف إلى هذه الأسس مثبتين بعض الأمثلة الدالة.
يقرأ التاريخ الفارسي، ويتوقف عند صفحات منه ينتصر فيها الحق ويرغم المظلوم أنف الظالم، فمن جدوده:
من فرس الباطل بالحق ومن أرغم للمظلوم أنف الظالم ويقرأ التاريخ العربي، ويشيد بفضائل فيه مشرقة ولكنه ينخرط كليا في بهاء الفجر الذي أشرق وأبان نهج السبيل وحدد دروب العيش:
- ما برحت مظلمة دنياكم * حتى أضاء كوكب في هاشم - أبان الله نهج السبيل * ببعثته وأرانا الغيوبا هنا، تتحدد هوية مهيار الحقيقية، انه ينتمي إلى هؤلاء الذين فرج الله بهم الضيق فكشفوا اللبس، وحملوا الناس على الصراط " وحطموا " ود " و " هبل " وأيقظوا للرشد أبصار القلوب. وتتجلى هوية مهيار في موقف لا يدع مجالا للشك، إذ انه ينتمي للفتية الذين داسوا تيجان ملوك قومه وحطموا عروشهم ولعبوا بجماجمهم كي يبنوا للانسان عالما جديدا أبان الله نهجه ببعثه خاتم الأنبياء والرسل، ولنقرأ بعض ما يقول في هذا الصدد:
ديست من الشرك بهم جماجم * ترابها من عزه لم يدس ساروا بتيجان الملوك عندنا * معقودة على الرماح الدعس إن هؤلاء الذين داسوا جماجم ملوك قومه وحطموا تيجانهم، كما حطموا " ود " و " هبل " هم الذين فكوا أسره وأعطوه قيمته الانسانية، وهم قومه وإليهم ينتمي:
وفك من الشرك أسرك وكان * غلا على منكبي مقفلا إن أسس رؤية مهيار هي مبادئ الاسلام، ولهذا لم تعد التيجان " الكسروية " تعنيه إن ديست، كما أنه صار يطمح إلى تحقيق نظام اسلامي ويريد ذلك رافضا النظام " الكسروي " و " الأردشيري " وكل نظام يقوم على شاكلته في هذا الإطار من الرؤية ينبغي أن ننظر إلى مواقف مهيار ويحق لنا أن نسأل كل مجادل، أنطلب من رجل يرفض أنظمة قومه لأنها ذات طبيعة معينة أن يقبل أنظمة أخرى ذات طبيعة مشابهة لقوم آخرين ثم نسأل: أيحق لنا إن رأيناه يرفض مثل هذه الأنظمة أن نعده مناهضا للعرب وشعوبيا؟
يقول مهيار، بعد مقدمة وجدانية وعرض تاريخي، متحدثا عن طبيعة الحكم في الاسلام منتهيا إلى رفض نظام معين لأنه ذو طبيعة لا تنتمي إلى الاسلام وإنما إلى مبادئ ومفاهيم مغايرة سماها " أردشيرية " - وقلبها " أردشيرية " * فخرق فيها بما أشعلا - وردها عجما " كسروية " * يضاع فيها الدين حفظا للدول إن لمهيار هنا منطلقاته ومقاييسه التي تختلف عن منطلقات الآخرين ومقاييسهم فهو يجد هذا الحكم ذا الطبيعة الخاصة شبيها بالنظام " الكسروي ". وهو يرفضهما معا داعيا إلى نظام اسلامي عادل تسود فيه