وتقتضي طبيعة هذا الصراع أن يتحمل الإنسان كل ما يتعرض له، فيسغب والثرى عمم ويظما والغيث مسكوب:
- إني لأسغب زهدا والثرى عمم * نبتا، وأظما وغرب الغيث مسكوب وإن ليم في ذلك يجيب منكرا كل ما يعرضونه من إغراءات ليست مكاسب حقيقية ولا يريد أن يوهم نفسه بها، وإن لم يكن سواها فالجوع أفضل من الشبع في هذه الحالة، إنه خيار ينطلق من رؤية عميقة وشاملة للحياة والعالم وسبل تحقيق الذات:
أ أشري بعرضي رفد قوم معوضه * وأشعر نفسي أن ذلك مكسب فاقعد إذا السعي جر مهضمة * وجع إذا ما أهانك الشبع ويكون الصراع مع الدهر أشد مرارة وقسوة عندما يقف الإنسان وحيدا في دروب الحياة يحس وحشة الغربة في غياب الصديق والحبيب.
يفهم مهيار الصداقة أخوة وشد أزر وقت الشدة:
قلبي للأخوان شطوا أو دنوا * وللهوى ساعف دهر أو نبا ولكن هؤلاء الأصحاب يكونون وقت الشدة كاليد الشليلة:
وصاحب كاليد الشليلة لا * يدفع بها شيئا فيندفع يتلونون ويتغيرون بتغير الأحوال، أحوالهم وأحوال صديقهم:
كم أخ غيره يومه * المقبل عن أمس به الذاهب كنت وإياه زمان الصدى كالماء * والقهوة للشارب وفرق كبير بين أن يكون حمامة حينا عقربا حينا آخر:
يطير لي حمامة فان رأى خصاصة دب ورائي عقربا يرفض مهيار هذه الأسس في التعامل، فلا يكون ذا وجهين، ويتحمل الكثير:
وصاحب كالجرح أعيا سبره * وجل عن ضبط العصاب والقمط حملته لا أتشكى ثقله * كي لا تقولوا: طرف أو مشترط ويعاتب برقة وحنو وطهارة:
أيها العاتب ما ذاك *، وما أعرف ذنبي؟
أتظن الدمع دينا * تتقاضاه بعتبي...
ويبقى ودودا مخلصا يحرص على الصديق ويتالفه شريطة ألا يؤدي هذا إلى الذل، إذ أن هناك حدودا ينبغي ألا تتجاوزها العلاقة بين الطرفين وإن تجاوزتها يكون لمهيار موقف واضح، فهو يختار البعد الأجمل:
إذا لم يقرب منك إلا التذلل وعز فؤاد فهو للبعد أجمل سلوناك لما كنت أول غادر * وما راعنا في الحب أنك أول وقد يختار الهجر إن اقتضى الأمر ذلك، ويدافع عن موقفه قائلا:
أأنت على هجر اللئام معنفي * نعم أنا ثم فارض عني أو أغضب توصله هذه التجربة المريرة مع الآخرين والأصدقاء منهم بخاصة إلى القول:
طهر خلالك من خل تعاب به * واسلم وحيدا فما في الناس مصحوب نلمس في هذا كله شخصية تكاملت عناصرها ورؤية شاملة عميقة نفاذة تبلورت: منطلقات وأدوات ومفاهيم وتوجها، ونلمس أيضا حرصا على نقاوة هذه الشخصية ورؤيتها وكأنها جوهر كريم ينبغي أن يسلم فلا يعاب ولا يخدش، ولنسمعه يخاطب من يطلب منه تغيير سلوكه غير المجدي في هذه الحياة، بعد أن كبر ولم يحرز مالا أو منصبا:
قالوا ارتدع إنه البياض وقد * كنت بحكم السواد ارتدع لم ينتقل الشيب لي طباعا ولا * دنسني مثل صقله طبع ثم يؤكد حقيقة موقفه وطبيعته فيقول:
يا ناقد الناس كشفا عن جواهرها * متى تغير عن أعراقه الذهب وهو يعرف تمام المعرفة الأسباب التي أوصلته إلى ما هو عليه، فيذكر أسباب إخفاقه في تجربته مع الزمان والناس قائلا:
أذنبني الحب والاخلاص عندكم * فان ذنبي إلى أيامي الأدب.
5 - الإنتماء والهوية نظام الحكم وبديهي أن من يمتلك مثل هذه الرؤية ويتخذ مثل هذه المواقف أن يرى إلى الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا تتحدد قيمته بما يملكه من إمكانات ومؤهلات وبما يطمح إلى تحقيقه وبسبله التي يتبعها لتحقيق ذاته وتحسين مشروعه... بديهي أن ينظر إلى الجوهر الإنساني الذي يبقى ضياء يشع ويضئ في دروب الدنيا مثل الذهب، دونما أي اهتمام بالمؤثرات الخارجية كالعرق والنسب والإقليم، ولكن هذه الرؤية التي تقيم الإنسان باعتباره فردا يملك امكانات وطموحات وسبلا ومفاهيم كانت تصطدم برؤية المجتمع الذي كان يعيش فيه مهيار إلى الموضوع.
إن لهذا المجتمع مقاييسه الأخرى في التقييم، وقد اصطدم مهيار بهذه المقاييس في مجالات من الحياة عديدة، كانت أقساها تجربته في علاقته بالجنس الآخر، نعني تجربة حبه لفتاة كانت تختلف عنه نسبا.
كانت فتاة مهيار جميلة، صعبة القياد، ذات دلال ياسر، تبخل ولا تفي بالوعود، كأي حبيبة عرفها الشعر العربي من قبل، ولكن مهيار يوظف بعض المفارقات في لعبة فنية، فهي بخيلة وقومها عرفوا بالجود ويريد من قومها الذين عرفوا بحفظ الجوار أيضا أن يؤنسوا فؤاده الذي التجأ إليهم ويردوه إليه، وفي هذا إشارة من طرف خفي إلى موقف قومها منه، وكأنه يحثهم في إطار لعبة فنية على إنصافه وهم الذين اتصفوا بصفات يريد لها الآن أن تفعل فعلها، ولنقرأ بعض ما يقوله مهيار في هذا الصدد:
... من العربيات شمس تعود * بأحرار فارس مثلي عبيدا إذا قومها افتخروا بالوفا * ء والجود ظلت ترى البخل جودا ولو أنهم يحفظون الجوار *، ردوا علي فؤادي طريدا تعجب به الفتاة في نادي قومها، ولكنها تسال عن نسبه يسرها ما تعلمه عنه وعن أخلاقه غير أنها تريد أن تعلم ما حسبه.
أعجبت بي بين نادي قومها * أم سعد فمضت تسأل بي سرها ما علمت من خلقي فأرادت علمها ما حسبي قوة أخرى سوى شخصية الفرد ورؤيته ومؤهلاته نتحكم هنا انها تلغيه لتحل