فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا و نساءكم وأنفسنا وأنفسكم - الآية، فقال: أما دعاء الأبناء والنساء فالمعنى فيه ظاهر، فما دعاء الأنفس؟ والإنسان لا يصح أن يدعو نفسه كما لا يصح أن يأمر و ينهى نفسه.
فالجواب عن ذلك: أن العلماء أجمعوا والرواة أطبقوا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم عليه وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف (وهو أبو حارثة بن علقمة) و السيد والعاقب، وغيرهم من رؤسائهم، فدار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معنى المسيح عليه السلام ما هو مشروح في كتب التفاسير (ولا حاجة بنا إلى استقصاء شرحه لأنه خارج عن غرضنا في هذا الكتاب). فلما دعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملاعنة أقعد بين يديه أمير المؤمنين عليا، ومن ورائه فاطمة، وعن يمينه الحسن، وعن يساره الحسين عليهم السلام أجمعين، ودعاهم (هو) صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يلاعنوه، فامتنعوا من ذلك خوفا على أنفسهم وإشفاقا من عواقب صدقه وكذبهم.
وكان دعاء الأبناء مصروفا إلى الحسن والحسين عليهما السلام، ودعاء النساء مصروفا إلى فاطمة عليها السلام، ودعاء الأنفس مصروفا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، إذ لا أحد في الجماعة يجوز أن يكون ذلك متوجها إليه غيره، لأن دعاء الإنسان نفسه لا يصح كما لا يصح أن يأمر نفسه، ولأجل ذلك قال الفقهاء: إن الامر لا يجوز أن يدخل تحت الامر، لأن من حقه أن يكون فوق المأمور في الرتبة ويستحيل أن يكون فوق نفسه.
ومما يوضح ذلك ما رواه الواقدي في كتاب (المغازي) من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أقبل من بدر ومعه أسارى المشركين كان سهيل بن عمرو مقرونا إلى ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صار من المدينة على أميال انتشط (اجتذب) نفسه من القرن (الحبل) وهرب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من وجد سهيل بن عمرو فليقتله، وافترق القوم في طلبه فوجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم منقبعا إلى جذع شجرة (مستترا في أصل