وأما الأخطار بالبال: فقد عرفت أنه قد اعتبره جماعة من القدماء، فإن أرادوا أن معنى النية ذلك فقد عرفت أن التحقيق خلافه، وإن أرادوا لزومه تعبدا - وهو شئ زائد على الداعي المعتبر - فلعل الوجه: أن الداعي لما كان أمرا خفيا لا يتميز غالبا - وإنما ينقحه أصحاب الأذهان السليمة والمجاهدات - فاللازم اعتبار أمر واضح يبتني عليه الحكم ويتصف العمل بالصحة والفساد معه، وهو الأخطار بالبال، فيكون معنى كلامهم: أن مع كون الداعي التقرب لا بد من تصوره أيضا حتى يسلم عن الشوائب ويتضح عن غيره، لا أن مجرد الأخطار نية وإن لم يكن المخطر بالبال هو الداعي، إذ القول به مناف لأدلة النية. وهذا وجه جيد.
مع أنه يمكن أيضا أن يقال: إن ما ورد في باب الحج وغيره من الروايات في كيفية القصد والشروع في العبادة أيضا يرشد إلى استحضار الداعي عند العمل، مضافا إلى أنه العمدة المميز (1) بين العبادة وغيرها، فالاهتمام بشأنها أزيد من غيرها، مضافا إلى الإجماع المحكي عن المنتهى في الصلاة (2) ورواية العلل: (في وقت رفع اليدين في التكبيرات إحضار النية وإقبال القلب على ما قال وقصد) (3) ولا ريب أن ملاحظة هذه الوجوه مع فتوى أساطين الأصحاب مما يؤيد اعتبار الأخطار تعبدا، وهو أحوط إن لم يكن أولى، بل أقوى (4).
وثالثها: أن على القول بالداعي: لا ريب أن استدامته حقيقة (5) والعمل متلبس به من ابتدائه إلى آخره إلا أن يتبدل الداعي بداع آخر، كعروض قصد الرياء ونحوه، وذلك كلام آخر، والغرض (6) أن الداعي موجود دائما حقيقة، ولا يمكن صدور الفعل من دون داع، لأنه أحد أجزاء العلة التامة، وبانتفائه ينتفي المعلول، فهو مستديم حقيقة، مقارن لأول جزء من العمل ووسطه وآخره.