أثارت سياسة المنصور في شدتها وصرامتها، وأثار إسراف قادته وعماله في سفك الدماء سخط جمهرة من اعلام عصره ما في ذلك من شك حتى تعرض من تعرض منهم إلى صنوف من الأذى والمحن، ويقول لنا السيوطي في هذا الصدد " آذى المنصور خلقا من العلماء ممن خرج معهما - أي محمد وإبراهيم - أو أمر بالخروج قتلا وضربا وغير ذلك، منهم أبو حنيفة وعبد الحميد بن جعفر وابن عجلان ".
أجمعت كلمة المؤرخين على أن عهد المنصور كان عهد محنة لهؤلاء العلويين ولأنصارهم من أهل الفقه والعلم على اختلاف مذاهبهم - كما رأيت في قول السيوطي -، ولكن هؤلاء المؤرخين وبعض المحدثين والمؤلفين اختلفوا في ماهية الأسباب، منهم من يجعلها أسبابا سياسية ومنهم من يردها إلى غير ذلك.
معركة بين النظار ودارت معركة حامية الوطيس بين النظار في هذا الشأن تضاربت فيها وجهات النظر فمنهم من ينفى عنهم الخوض في السياسة وينفى الروايات والأخبار المشعرة بصدور فتوى صريحة أفتاها هؤلاء الفقهاء بجواز الخروج على المنصور مع من خرج عليه من العلويين والسادات أو في جواز التحلل من بيعته، لما في الخروج على السلطان من المفاسد - وإن كان السلطان جائرا فهو الذي يحمي الثغور ويحفظ السبل ويقيم الشعائر، والخروج عليه ينافي أصولا معروفة في العقائد على ما يدعون، فهؤلاء يقولون: أن مالكا ما كان يخوض في السياسة ولا كان يحرض على السلطان، وأنه لزم بيته في النزاع بين المنصور والعلويين، أي أنه كان على الحياد، ولم يقصد بفتواه في يمين المكره وفي طلاق المكره الدعوة إلى التحلل من بيعة المنصور وإن حملت هذه الدعوى على ذلك واحتج بها عامل المدينة على ضربه في محنته المعروفة، أما أبو حنيفة فإنه على أصح الأقوال - أشد وأعنف من صاحبه لم يتردد في الجهر بالخلاف، كما ستقف عليه مفصلا بعد قليل.
العامل السياسي في النزاع لا يجوز فيما نرى إغفال العامل السياسي قط فيما نحن فيه، ولا يصح تجاهل روح العصر الذي عاش فيه أولئك الفقهاء الأعيان من حجازيين وعراقيين، وهذا العصر العصيب عبارة عن الفترة الواقعة بين أواخر الدولة الأموية وأوائل العباسية، وفيها ساءت الأحوال السياسية وتتابعت الفتن واستشرى الشقاق، وهي بعد ذلك فترة يتناقل المحدثون من أبنائها عن آبائهم أو يروون عن أجدادهم وقائع الطف، والحرة واستباحة الحرمين، وفتنة ابن الزبير والثورات القبلية بين عرب الشمال وعرب الجنوب وغير ذلك من الوقائع التي استبيحت فيها كثير من المحارم، وانتهكت الحرمات، وفي هذه العصور انقلبت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، تقطعت بسببه الأرحام وسفك الدم الحرام، فلا غرو إذا رأينا كثيرا من فقهاء هذا العصر وأئمته ناقمين على الدولة، ساخطين على الساسة والحكام، نافرين من تقلد الأعمال العامة في تلك الأيام.
جعفر بن محمد، وأبو جعفر تروى أخبار الإمام الصادق جعفر بن محمد مع أبي جعفر المنصور بكثرة في كتب الحديث وفي الكتب المعنية بسيرة أهل البيت، ويلاحظ أن كتب التاريخ المشهورة كتاريخ الطبري ومروج الذهب والكامل وتواريخ الخلفاء العباسيين خلت من الإشارة إلى اخباره في هذه المحنة إلا نادرا مع أنه أنبه السلالة العلوية ذكرا في عصره بالمدينة، عاصر المنصور في السنوات العشر الأولى من ملكه، وقد أجمعت كلمة المؤرخين والمحدثين على رواية مالك وأبي حنيفة وتحملهما عنه، عاش أبو حنيفة من بعده مدة وعاش مالك أكثر من عشرين سنة، وكلاهما تحمل عنه في المدينة فأما أبو حنيفة فإنه كان نزيل المدينة هاجر إليها من العراق مضطهدا من قبل ابن هبيرة عامل بني أمية على الكوفة، وأما مالك فإنه كما لا يخفى من أهل المدينة.
لم يقل لنا أحد من المؤرخين أن جعفر بن محمد حبس أو أوذي في المحنة كما ضرب أو حبس غيره بأمر من المنصور أو من عامله على المدينة، وليس معنى هذا السكوت من المؤرخين في الغالب أن الامام سلم من المحنة مطلقا، والحق أن موقفه كان غاية في الدقة بين العلويين الذين يطالبون بحقهم ويحاولون درأ المظالم عنهم وبين الذين انقادت لهم الأمور في العراق وخراسان، أي أن محنته كانت من نوع آخر فإنه عاش عيشة مشوبة بالكدر منغصة بالوعيد والتهديد محاطة بالعيون والجواسيس في عصر أبي العباس السفاح وعصر أخيه أبي جعفر المنصور، وقد عانى من بعض الولاة والأمراء العباسيين في عصر السفاح ما عانى من الأذى والكيد، لأن الوشايات إليه كانت أسرع من السيل إلى المنحدر، وستطلع على أسباب ذلك.
أمير المدينة في دولة السفاح بالغ الأمير داود بن علي عم السفاح وواليه على المدينة في اضطهاد الطالبيين المقيمين فيها، ومرد هذا الاضطهاد إلى شعوره بان هناك وثبة لا بد من قيام الطالبيين بها على الدولة العباسية، فكان يلاحق أتباع العلويين وأنصارهم ويضايقهم، وفي أيامه وبأمر منه قتل " المعلى بن خنيس " من أتباع جعفر بن محمد وصودرت أمواله، وفي سبب قتله أقوال منها: أن المعلى المذكور امتنع من رفع قائمة بأسماء شركائه في رأيه فقتله " السيرافي " صاحب شرطة الأمير والي المدينة في قصة تدل على تفاني المعلى في طاعة الإمام المذكور وفي اخلاصه له ورد بعضهم قتله لقيامه بالدعوة لمحمد بن عبد الله النفس الزكية.
كان لهذه الحادثة أسوأ الأثر في نفس جعفر بن محمد، وقد رأى في هذا الاعتداء اعتداء على حقه وحربا معلنة عليه، يدل على ذلك عنف الاحتجاج الذي احتج به على الأمير والتهديد الذي هدده به، فقد أجمعت روايات الباحثين في سيرته أنه مشى إلى ديوان الأمير وهو محنق على خلاف عادته وألقى خطابا موجزا قال فيه: " قتلت مولاي وأخذت مالي أ ما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب! "، وقد جرى اثر الخطاب أخذ ورد - بين الإمام والأمير - لا يخلوان من العنف، ولكن الأمير حاول التنصل وإحالة التقصير على صاحب شرطته فكانت الحجة واهية ولم يكن للأمير مهرب من القود، فأمر بقتل " السيرافي " ولما أخذ ليقتل صرخ قائلا " يأمرونني بقتل الناس فأقتلهم لهم ثم يأمرون بقتلي، وهي كلمة تدل على أن القاتل كان مأمورا بإزهاق روح " المعلى بن خنيس " وأنه امتثل أمر الأمير داود بذلك، فيا لها من كلمة تدل على منتهى الشعور بسوء المنقلب وبأنه - أعني السيرافي.
أطاع المخلوق بمعصية الخالق ويا له من إسراف في سفك الدماء واستخفاف بحرمة الأرواح.
هذا وفي كتب أصحاب السير أقوال مضطربة في تاريخ هذه الحادثة، قيل:
أنها وقعت في خلافة المنصور - وهذا مستحيل -، والصحيح أنها وقعت في عصر سلفه أبي العباس السفاح، فقد أجمعت كلمة المؤرخين على أن داود بن علي مات في خلافة ابن أخيه السفاح بعد الحادثة المذكورة بقليل، ومرد هذه الأوهام في كتب أصحاب السير والمؤرخين إلى سقم الأصول، وقد تكون من أوهام المؤلفين المتأخرين.