الكوفة ويقال له " وزير آل محمد " فإنه لم يكتم خوفه ولا وجله على هؤلاء النفر المغامرين، وقد جاهر بان رحلتهم مبتسرة أو سابقة لأوانها، وعبثا حاول أبو سلمة ابقاءهم في البادية ولكن من يضمن لهم الأمن فيها، ومن يمنع جيوش الأمويين منهم إذا قصدتهم في الصحراء! وأخيرا لم يسعه إلا الإذن لهم في الدخول إلى الكوفة على كره منه فان جيش العدو منهم غير بعيد، وهذا الجيش مرابط بهيت، وكتم أبو سلمة أمر القوم شهرين في الكوفة محتجا بالخوف، ولا خوف يعتد به في تلك الأيام.
نقل البيعة إلى العلويين لم يكن ذلك رأيا من أبي سلمة وإنما كان يتعلل بعلل مختلفة وينتحل أعذارا شتى قائلا للعباسيين إن امركم لم يتم بعد وإن بني أمية قادرون على الحرب، إلى معاذير أخرى لا غنى له عن كسب الوقت فيها، وكان أبو سلمة في هذه الفترة العصيبة يسبر غور العباسيين ويوازن بينهم وبين العلويين إذ كانت في عنقه بيعة لإبراهيم بن محمد الإمام ولكنه في حل منها الآن لأن إبراهيم بن محمد قد مات، فهو يريد أن يخلص إلى رأي قاطع بعقد البيعة من بعد إبراهيم كما خلص قبل ذلك إلى رأي قاطع بشأن الدعوة فجعلها للهاشميين عامة لا للعباسيين خاصة، والظاهر أن أبا سلمة خلص إلى ذلك الرأي فهو يريد نقل البيعة إلى العلويين وهو يبعث إلى ساداتهم المقيمين في المدينة بكتبه يعرض عليهم ذلك، ولكن هذا الانحراف جاء متأخرا عن وقته فان البيعة عقدت للسفاح في الكوفة باشراف أهل بيته وذويه وأنصاره، وفي مقدمتهم عمه داود بن علي، وكان أبو سلمة آخر من بايع نزولا على حكم الأمر الواقع واعتذر من أبي العباس.
لم تخف محاولات أبي سلمة على أبي العباس وأخيه أبي جعفر فقتل في الكوفة، ولم يقتل إلا بعد استشارة أبي مسلم الخراساني، فأبو مسلم شريك في مقتل أبي سلمة وزير السفاح بلا شك، وقد شارك بمقتله وكان رأيه من رأي داود بن علي - وهو من أهل الرأي والمشورة - ويروي ابن قتيبة أن السفاح أمر بصلب أبي سلمة بعد ذلك وهكذا قتل أول وزير لأول خليفة من العباسيين.
نجاح المغامرة وعلى كل حال فان مغامرة العباسيين في الوصول إلى الكوفة عبر بادية الشام تمت بنجاح ووصلت القافلة المخاطرة إليها بين مظاهر الحماس البالغ الذي غلب على شباب بني العباس وأنصار دعوتهم، فكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة قال: " ان نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من ديارهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة همتهم كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم ".
مباشرة العمل وعني أبو العباس أول ما عني به فور أخذ البيعة له وانفراده بالسلطة في الكوفة بعد مقتل أبي سلمة بتنظيم معسكره وتوزيع رفاقه على ميادين الحرب والثورة، وكانت واسط محاصرة يدافع عنها يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراقين من قبل مروان بن محمد، ويشدد الحصار عليها الحسن بن قحطبة من أشهر قواد السفاح، فانضم الأمير عيسى بن موسى إلى هذا القائد بأمر السفاح، وشارك في حصار واسط، وهو أول عمل يقول به عيسى بن موسى بعد إعلان الثورة على الأمويين في العراق، ومما هو جدير بالذكر أن ابن هبيرة سلم واسطا لابن قحطبة بعد قتال دام سنة تقريبا، وسلم معه قواد جيشه، وقدم على المنصور بأمان منه ثم قتل هو وقواد جيشه بعد ذلك، وهو عمل يلام عليه السفاح وقد عده محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية وصمة في تاريخ الدولة العباسية وولى عيسى بن موسى الكوفة بعد الفراغ من أمر واسط فحل محل داود بن علي الذي نقل إلى ولاية المدينة في السنة الأولى من خلافة السفاح.
عيسى سند المنصور كان عيسى وهو في عنفوان شبابه مستودع أسرار أبي العباس السفاح، وقد ائتمنه على وثيقة سجل فيها عقد الولاية لمن بعده، وبموجب هذا الوثيقة أخذت البيعة للمنصور، أخذها له في الحجاز حاجبه الربيع بن يونس وأخذها وكان حاجا - في العراق عيسى بن أخيه هذا، وكتب بذلك إلى الأمصار وقام بأمر الناس، ثم شرع في ضبط الدواوين وحفظ الخزائن والأموال حتى تسلمها المنصور، ولنا أن نقول: أن أبا جعفر المنصور مدين - إلى حد ما - ببيعته واستقراره في دست الخلافة خلال هذه الفترة لابن أخيه عيسى بن موسى، وكان أميرا على الكوفة من عهد السفاح إلى أيام المنصور ولا تقل مدة امارته عليها عن ثلاث عشرة سنة، ثم صار واليا على المدينة، وتتضارب الروايات بشأن موقف عيسى بن موسى هذا بعد موت أبي العباس السفاح في الأنبار وقبل مجئ ولي عهده المنصور من مكة، ومرد هذا الاضطراب في الروايات إلى سقم الأصول وكثرة الأغلاط فيها.
مات السفاح وبويع أخوه المنصور وعيسى بن موسى ابن أخيهما على ولاية الكوفة، وقد كثرت الفتوق والأحداث في السنوات العشر الأولى من خلافة المنصور، ومن أشهرها خروج محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية في الحجاز، ثم خروج أخيه إبراهيم في العراق، وقد عظمت شوكة إبراهيم هذا، وانضم اليه وهو يطلب بثار أخيه جل أهل العراق، وأرجف المرجفون بمصير الدولة العباسية الناشئة في العراق، وضويق المنصور وهو في معسكره بالكوفة - مضايقة شديدة، وكان هذا المعسكر محاطا بما لا يقل عن مائة ألف من أنصار العلويين يتربصون الدائرة بالمنصور حتى تحدث المتحدثون بخروجه من العراق إلى بلاد فارس، وقد حفظت لنا كتب التاريخ مراسلات دارت بينه - أي بين أبي جعفر المنصور - وبين العلوي الثائر في الحجاز، وتعد من عيون الرسائل، ومن محاسن الكتب في معناها وهو لا يخرج عن الأدب والتاريخ والأنساب والواقع أن ثورة محمد بن عبد الله من أخطر الثورات التي واجهها المنصور، وقد اضطرب لها جدا، ولم يبق أحد من أهل الرأي إلا استشاره في كيفية التغلب على الثائرين.
في هذه الفتوق وما إليها ندب المنصور ابن أخيه هذا إلى قتال العلويين الثائرين في الحجاز وفي العراق بعد ذلك، وقدر لعيسى ان يتغلب على الأخوين محمد وإبراهيم بعد معارك طاحنة تجلى فيها اخلاص هذا الأمير لعمه وللدولة العباسية.
كم الأفواه ومناهضة المعارضة وركن عمال بني العباس وولاتهم - وفي مقدمتهم عيسى هذا والي الكوفة، وجعفر بن سليمان بن علي والي المدينة إلى الشدة المتناهية في مناهضة المعارضين لأساليبهم في قمع تلك الثورات فحاول الأول أن يفتك بأبي حنيفة في الكوفة لمجاهرته بارائه في الخلاف ثم أشخصه منها إلى بغداد، وفعل الثاني ما فعل بفريق من فقهاء المدينة، وفي مقدمتهم مالك بن أنس، بيد أن اخلاص هذين الأميرين كان وخيم العاقبة عليهما فعزلا وأوذيا إيذاء شديدا بعد ذلك، حرم جعفر بن سليمان من مال طائل جاءه عن طريق الإرث وخلع الثاني من ولاية العهد، قال السيوطي وهو يذكر المنصور " كان عيسى هو الذي حارب الأخوين فظفر بهما فكافأه بان خلعه مكرها وعهد إلى ولده المهدي ".