يثيرونها، وذلك لأن هذا الصنيع يتيح لنا أن نكون موضوعيين ومقدرين لأصحاب الفضل فضلهم في آن.
نقرأ، في كتب الأدب، ما يفيد أن " الشاعر المشهور " أبا الحسين مهيار بن مرزويه، الكاتب الفارسي الديلمي، كان مجوسيا فاسلم سنة 394 ه على يد الشريف الرضي، كما أن هذه الكتب تصفه بقولها: " كان شاعرا جزل القول مقدما على أهل وقته " وله ديوان شعر كبير، وهو رقيق الحاشية طويل النفس في قصائد... توفي سنة 428 ه.
في ما قرأناه تعريف موجز بالشاعر وشئ من ثناء، غير أن بعض مؤرخي الأدب يورد ما يثير مسائل على درجة من الأهمية جعلت بعضهم يقول مخاطبا الشاعر: يا مهيار، انتقلت باسلامك، في النار، من زاوية إلى زاوية ".
قد نجد، في هذا القول، ما يلخص رؤية معينة إلى مهيار وشعره كنا قد أشرنا إليها قبل قليل. وفي ما يلي، سوف نسعى إلى تبين مدى صحة هذه الرؤية، وذلك في إطار المسائل الكثيرة التي تثيرها قراءة ديوان هذا الشاعر قراءة منصفة.
2 - منابع الرؤية وتوجهها نلحظ، في قصائد مهيار، ميزة يتصف بها كل شعر يتخذ الصور وسيلة وفنية الأسلوب أداة، وقد رأى القدماء هذه الميزة وعبروا عنها بأسلوبهم، فقال أبو الحسين الباخرزي في دمية القصر: " هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر، وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصائده بيت يتحكم عليك بلو وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب وبمثلها يعتذر المذنب عن الذنوب ".
نتجاوز عن سجع أبي الحسن ونتوقف عندما نفهمه من هذا القول، وبخاصة تركيزه على ما تتصف به الألفاظ من صفات تجعلها شبيهة بالعذارى الجميلات وما تتميز به القصائد من ميزات تجعلها تعبر عما في القلوب وكأنها مصبوبة فيها.
ثمة سببان، يجعلاننا لا نعجب من وصول مهيار إلى مثل هذه المرتبة من مراتب الابداع في لغة ليست لغته الأولى يعود السبب الأول، في تقديرنا، إلى تتلمذ هذا الشاعر على الشريف الرضي، ويتمثل السبب الثاني في اطلاعه الوافي على الشعر والتاريخ العربيين وفي فهمه لأسرار اللغة العربية وتعمقه في ذلك كله وهذا ما نلمسه في الديوان من خلال إشارات دالة. فالملاحظ أنه كثيرا ما يضمن شعره إشارات إلى فحول الشعر العربي وإلى حوادث من التاريخ العربي والاسلامي، ففي إحدى قصائده، على سبيل المثال، يرى أن الشعر لم ينبح " الغريب المقرح " و " مستنزل النعمان عن سطوته " كما أن الردى لم يخضع لنسيب " عروة " ولم نعط قيسا " مناه " وفي قصيدة أخرى يشير إلى استشراء الهجاء في العصر الأموي عندما يقول:
بهذا الحكم حين تحالباها * نقائض حاز زبدتها جرير كما وأننا نلمس، في الديوان، إشارات إلى التاريخ العربي نذكر منها، على سبيل المثال:
لئن كانت الزباء عزا ومنعة * فأنت لها من غير جدع قصيرها ونقرأ له أيضا:
حديث لو تلوه على زهير * غدا من مدحه هرما يتوب فأردي كليب لحفظ الجوار * ورعي الذمار وصون الحريم وللخوف في قومه أن يضام *، مات ابن حجر قتيل الكلوم وخاطر حاجب في قوسه * فخلفها شرفا في تميم نكتفي بهذه الأمثلة التي تدل على أن مهيار كان على قدر كبير من المعرفة بالتراث العربي: تاريخا وشعرا ولغة، كما أن هذه الأمثلة تدل، من جهة ثانية، على طبيعته: شخصية ورؤية إذ أنه سمى النابغة " مستنزل النعمان عن سطوته "، ورد أسباب قتل كليب إلى " حفظ الجوار ورعي الذمار وصون الحريم " وأعاد أسباب مغامرة امرئ القيس التي أدت إلى موته غريبا مقرحا " للخوف في قومه أن يضام " كما أنه سمى صنيع حاجب الذي رهن قوسه عند كسرى ووفى بذلك شرفا يتوارثه الأبناء عن الأجداد، إن في اختيار هذه الأحداث واستخدامها إشارات دالة موحية وتوظيفها في سياق معين دلالات عديدة أهمها اتساع ثقافة الشاعر وعمقها وملكة رؤية خاصة تنظر إلى التاريخ محاولة فهمه واستخلاص الدروس والعبر منه، بغية الإفادة منه في فهم الحاضر والكشف عن الواقع والتأثير في توجهه.
يقرأ مهيار التاريخ ويرقب الحاضر ويحياه، ترتسم حركة التاريخ أمامه وتنكشف علاقات الواقع أمام عينه الثالثة، وتتكون لديه تجربة عميقة يختلط فيها وعي العقل وحدس الشعر ويعبر عن تجربته معادلا شعريا لها يحمل رؤية خاصة أشرنا إلى بعض منابعها وإلى توجهها العام وسنحاول في ما يلي أن نلمس أهم عناصرها المكونة.
3 - معنى الحياة وقيمة الإنسان يعتقد مهيار أن الحياة عبارة عن رحلة يحث فيها الإنسان الخطى مطاردا من الدهر ويرى أن لهذه الرحلة نهاية حتمية هي الموت، أو لعله يرى أنها رحلة باتجاه الموت وأثناء الرحلة ينشب صراع مع الدهر وطالما كان الأمر على هذه الصورة فلتكن هذه الرحلة في سبيل هدف أسمى وليكن الإنسان فيها صانعا مجده محققا ذاته مهما كلف ذلك من مخاطر ولنقرأ بعض ما يقوله في هذا الصدد:
باتت تخوفني الأخطار مشفقة * ترى الإقامة حزما والنوى غلطا وهل رأيت الذي نجاه مجثمه * بعقوة الدار، أو أرداه إن شحطا وما نحن إلا قطين الموت يعسف * بالواني ويلحق بالسلاف من فرطا وطول أيامنا، والدهر يطلبنا * مراحل تنتهي اعدادها وخطى ويدعوه هذا الاعتقاد إلى تحديد غايته من الحياة وجعل موضوع الصراع مع الدهر " مرمى العز " وإلا فأهلا بالموت، وليس من مرتبة وسط، كما يقول:
... وقم بنا نطلبها عالية * إما لمرمى العز أو للمرمس ويتخذ الصراع بعدا انسانيا عاما، فهو لا يصارع أياما بعينها وإنما يجالد " الدهر " بما يعنيه من امتداد للزمان والمكان ومجرى الحياة فيهما وهذا الصراع الذي يخوضه الإنسان ليس مع الطبيعة وحدها أو مع أحداث الحياة فترة معينة فحسب، وإنما مع الدهر في معناه العام ينطلق من أن للانسان جوهرا ينبغي أن يتحقق، وعلى كل انسان أن يصنع مصيره ويجسد حقيقته وإلا فقد معناه وقيمته وغدا شيئا آخر، ولنسمعه يعلن هذه الحقيقة متخذا السيف والليث مثالين على ذلك:
فالسيف ما لم يمض قدما زبرة * والليث كلب البيت ما لم يفرس