ذلك، أي شئ، أي شئ، وفي أساس كل ذلك قدرة على الاستيعاب مدهشة.
هذه الامكانات الكبيرة لم يكن لها ما يوازيها على المستوى الرسمي. فحيث كان من المفترض بهذه الإمكانات أن تدفع باسم عبد المطلب إلى سجل الشهرة كواحد من المؤثرين والفاعلين في تاريخ بلادهم السياسي والثقافي والأدبي لم يتوفر لهذه الإمكانات والطاقات ما يدفعها نحو تأثرها وعلى العكس من ذلك منيت هذه الامكانات بمن لا يحسن تقديرها وبدا عبد المطلب يغرد خارج سربه منذ ولادة أولى الانقلابات في هذا العالم العربي على يدي حسني الزعيم... فمع مجئ هذا الرجل انقطع النشاط الدبلوماسي وتضاءلت احتمالات تجدده.
تذكر المكتبات والمطابع، ويذكر القراء اسم بدوي الجبل، اسم نزار قباني بينما بقي عبد المطلب خارج التداول مع أنه عاش معهما في فترة واحدة، واشتغل مع بدوي الجبل مثلا في حقل التعليم في العراق، وربما كان في أحد جوانب العمل الفني أغزر نتاجا... هكذا شانه في ميدان النقد وفي ميدان الصحافة وفي ميدان الفكر. في التشريع، في الحقل السياسي... نتداول اليوم بعض شعره الذي جمعه له شقيقه السيد حسن الأمين ونندفع إلى الاعتقاد أن ما يحكيه عنه شعره لا يوازي ما يتداوله البعض ممن عرفوه بل وندفع هذا الاعتقاد قليلا إلى الأمام لنرى بينهما هوة لا يردمها إلا البحث الجاد والمعمق في تفاصيل عبد المطلب مبتدئين من دمشق حيث ولد ونشأ ودرس وتعلم وتخرج حاملا إجازة في الحقوق، وبالتحديد نبدأ من بيت السيد محسن الأمين وننتهي في شقرا، قريته الجنوبية معرجين على الميادين التي عمل فيها: سفيرا لسوريا في موسكو، معلما في دار المعلمين في بغداد، موظفا في وزارة الخارجية السورية وواحدا من مؤسسيها، قاضيا في لبنان، محاميا في الكويت، صحافيا في صحف دمشق بتوقيع القاضي الفاضل، وفي جريدة النداء في بيروت، موظفا في وزارة الدفاع (رئيس قسم التوجيه) في سوريا حتى النكسة 1967... وما تبقى من حياته قضاها في بيت متواضع في منطقة النهر في بيروت وفي بلدته شقرا.
يستوقفنا في عبد المطلب الأمين أنه كان قاضيا ومحاميا وصحافيا وناقدا وسياسيا... الخ على صورة ابتكرها لنفسه وعلى مثال يجمع الفرادة مع ما في الفرادة من جوانب التألق أو جوانب الانكفاء. وإذا لم يكن الشعر ابرز مظاهر هذه الفرادة فإنه نموذج ونتاج لشخصية تكونت خارج هيمنة الطراز السائد.
كتب شعرا كثيرا ولكن صحف زمانه ومجلاته كانت خلوا من أي بيت أو أية قصيدة من قصائده، كتب كما لو كانت الكتابة عنده فيض لا يرد عطاؤه وكما لو أن الشعر عنده عمل عادي وطبيعي كالتنفس لا يستوجب اهتماما كونه، بالنسبة إليه، عملا تلقائيا جاهزا للممارسة على الدوام.
ان بعض المقاييس الفنية تمنحه بامتياز صفة شاعر في وقت تلجأ مقاييس أخرى إلى التقليل من أهمية شعره. فهو من جهة قابض على مجموعة من العناصر الضرورية للانتاج الفني ومنها لغته التي لا شك بتملكه لها اطلاعا على التراث الديني، تراث أهل البيت، التراث الشعري القديم ومن عناصر الانتاج الشعري المستوى الفكري والثقافي الذي تمتع به والذي قال عنه أحدهم اعجابا: انه دائرة معارف، ومنها وضوح الموقف من الأحداث ومن القضايا ومن المواضيع و من العلاقات، وقد كان في هذا المجال صاحب موقف لا يتأخر عن اعلانه مهما كانت الظروف معاكسة.
أما مواقفه من الحياة والموت والحب والزمن... الخ فيمكن استخلاصها مما توفر بين أيدينا من أشعاره وكذلك مواقفه من القضايا السياسية الوطنية والقومية والاجتماعية.
الحياة كلها لم تكن في نظره إلا محطة، لم تكن هدفا لم تكن إلا إضافة كمية ونوعية على التاريخ فقيمتها إذن في حجم ما تضيف لا في حجم ما تأخذ:
ودروب الحياة مهما استطالت * هي في خطونا الملح دروب أو:
تضاءل العمر وانهارت مهابته * حتى استحال تساجيعا وأوزانا والحياة من هذه الزاوية لمح من الحوادث تتراكم بتناقضاتها وتتعاقب تفاصيلها ليضيع العمر بين هذه التفاصيل:
تبا له الزمن الواهي فمر بها * مر الكرام: عيون أوصدت وفم في حياته اليومية، في تفاصيل العلاقات الاجتماعية كان ضاحكا مرحا وفي شعره وجه آخر لهذا الفرح الحياتي. في شعره كآبة ويأس واشمئزاز ونفور وقرف... نفس الأشياء التي يترجمها ضحكه ونكته أمام الناس كان يترجمها في شعره شكوى وتذمرا، المقاييس المختلة بل القيم المختلة أضحكته وأبكته في آن معا. يقول في قصيدة:
إلى أين يمضي بنا ركبنا * عنيفا لجوجا على عمرنا (1) ان تراكم هذه التساؤلات هو بحد ذاته دليل على شكوى داخلية عميقة:
إلى أين؟ وحتام؟ أكنا... وهل؟ ومن؟...
ويختم أبياته بخيبات الأمل وباسفاف الأوهام وبالانتظار الممل.
في قصيدة أخرى نظمها كما يبدو في أواخر حياته يحشد عددا من المفردات يكفي مجرد استعراضها للتأكيد على انزعاجه الشديد من القيم المختلة تلك:
ضلال العمى وضلال البصر * وحمى الحلال وحمى السفر (2) على أن هذه الأجواء المفعمة بالتساؤلات لم تشكل كما عند الرومنطيقيين مثلا مرضا اسمه الهروب مما قد يعترض الانسان من مشاكل والاحتماء بحصن الأنا والذات والانكفاء إلى عالم داخلي باطني صوفي تأملي... لقد كان عبد المطلب يرى إلى الواقع بعين ثاقبة ويحسن تشخيص الداء من اعراضه وتدفعه جرأته إلى اعلان موقفه، وموقفه كان دائما منحازا إلى شعبه إلى المظلومين والمستعبدين في كل زمان، منحازا إلى تلك القوى المناضلة من أجل تحرير بلادها وتحرر شعوبها من صلف الحكام واستهتارهم وامتهانهم لكرامات الناس وأعراضهم وأسباب عيشهم، منحازا إلى أهل البيت وشعره ينضح اعجابا بهم وتمسكا بتاريخهم وتمسكهم العنيد بقضية ما زالت حتى اليوم تقبض على هواجس بعض ذوي القربى والسلالات، منحازا إلى القضية القومية، قضية فلسطين مستشرفا مستقبلها منذ أيامها الأولى... وربما بسبب مواقفه الواضحة تلك عاش عبد المطلب حياة سماها حياة التشرد وحياة الغربة:
في أي صقع استقر واسكن * ولأي ظل استريح واركن (3)