والغربة تلك هي نفسها التي شعر بها المتنبي يوما حين قال:
ما مقامي بأرض نخله الا * كمقام المسيح بين اليهود أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود أنها الغربة نفسها لأنها غربة أصحاب الإمكانات الكبيرة والطموح الكبير والآمال العريضة الذين يصابون بخيبات أمل من واقع لا يساعدهم ويقف فوق ذلك موقفا اعتراضيا من مواهبهم ومزاياهم. والا كيف نفسر إذن شخصا بإمكانات عبد المطلب ومنزلته كان يسكن غرفة متواضعة في أحد الشوارع المتشابهة من منطقة النهر في بيروت، وفي تلك الغرفة زاره دبلوماسيون عرب وأجانب؟
قلنا أن عبد المطلب كان يمتلك الأدوات اللازمة والعناصر الضرورية ليكون شاعرا كبيرا، امتلك اللغة ووضوح الموقف والموهبة وغزارة الانتاج... الخ وضوح الموقف والموهبة وغزارة الإنتاج... الخ قال الدكتور حسين مروة في ذلك: يملك العدة الكافية، بل الغنية، لدقة الاختيار وبراعة الاستصفاء، ثم لأحكام البناء الشعري واتقانه. وفي مكان آخر يشير الدكتور مروة إلى امتلاكه، أي عبد المطلب، الوثيق لكل أدوات اللغة الشعرية وقواعد النحو والعروض... وفضلا عن تملكه لتلك الأدوات والعناصر كان بامكانه أن يجير موقعه الاجتماعي والسياسي كسفير ومنشاه في بيت السيد محسن الأمين ويستعين بهما لكي يشيع شعره ويدفعه إلى التداول، لكنه لم يفعل ذلك واكتفى بأنه أنشد الشعر بعفوية ليهمله على الفور بعد انشاده تاركا لأصدقائه أن يحافظوا على شعره وأن يحفظوه. ورغم محبتهم له ولشعره لم تنج قصائده من البعثرة والضياع إلى حد يدفعنا إلى الاعتقاد أن ما جمع من أشعاره لا ينقل بأمانة تفاصيل عبد المطلب التي يتحدث عنها أصدقاؤه، وربما لا يكون ذلك بسبب قلة ما جمع من أشعاره بل بسبب كون الشعر بالنسبة إليه مجرد هواية متطورة لم يشأ أن يدخلها في باب الاحتراف مدخرا لهذا الباب طاقة أخرى غير الشعر، ربما كانت السياسة، ظلت هي بدورها خارج باب الاحتراف.
الهواية في الشعر دون الاحتراف استندت عند عبد المطلب إلى أسس ثلاثة:
الأساس الأول: هو ان الشعر لم يكن عالمه الوحيد ونظن أنه لم يكن الأهم ولذلك لم تكن عنايته به موازية لموهبته فيه. يقول الدكتور حسين مروة عن شعره:
" انه التفجر الأفقي المندفع خلال قشرة الاحساس ويأتي، حين يأتي، استجابة لتوترات عفوية آنية يدفعها من العمق إلى... ذلك كان شأنه في أغلب حالاته الشعرية... سمة العفوية انسحبت على تعامله مع اللغة الشعرية في معظم ما كتبه شعرا بل انسحبت كذلك، أحيانا، على تعامله مع قواعد النحو و العروض رغم امتلاكه الوثيق لكل أدوات اللغة الشعرية وقواعد النحو والعروض ".
يضيف الدكتور مروة: " كانت استجاباته للحظات التوتر النفسي، تندفع بقسرية حادة وبنورية لا تمهله أن يتوقف ليقارن ويختار ويستصفي ثم ليبني قصيدته بروية وتدقيق وأحكام... ".
الأساس الثاني: ان الشعر عنده لم يكن طاقة استثنائية يندر وجودها، بل أن ملكة الشعر بين يديه قد توفرت في بيت عج بالشعراء وقد ذكرنا أن اخوته الثلاثة يكتبون الشعر، إضافة إلى عدد من أقاربه مما يترك الانطباع أن من طبيعة الأمور أن يكتب عبد المطلب الشعر من أجل الابداع في ميدان آخر ينبغي التفتيش عنه.
الأساس الثالث: انتماء شعره إلى ما يسمى الشعر العاملي. والشعر العاملي ليس حدثا مفتعلا أو قولا ينحو نحو المبالغة. الشعر العاملي ظاهرة تستحق التوقف وقد بادر الأستاذ حسن الأمين شقيق عبد المطلب كما بادر غيره إلى جمع بعض التراث العاملي وما زال الجزء الأكثر من هذه الظاهرة مبعثرا في الذاكرة الشعبية أو في الكتب أو في الأوراق الخاصة المغمورة...
لقد تفرد جبل عامل بهذه الميزة بحيث لم تخل قرية فيه من شاعر ينشد أو ينظم أو يقرض شعرا بالفصحى وإذا لم يتوفر فبالعامية. وربما تكون هذه الظاهرة مرتبطة بالتراث الشعري القديم أكثر من تأثرها بالتيارات الجديدة بدءا من المدرسة الرومنطيقية وحتى يومنا هذا ولذلك جاء شعر عبد المطلب أكثر استجابة لظاهرة الشعر العاملي بعفويته منه إلى التيارات الغنية والشعرية منها بخاصة، رغم كونه ولج باب الجديد وكتب خارج المألوف التراثي من موزون الشعر ومقفاة...
وعن هذه المسألة كتب الدكتور حسين مروة أيضا يحدد انتماء شعر عبد المطلب:
" ان الذي نقدمه من شعره، وهو بعض شعره لا كله، يتخذ مسارا يتقاطع حينا، ويتوازى حينا مع مسار حركة الشعر الجديد،... ان عبد المطلب كان أزخر طاقة وأقوى طموحا وحيوية، وأشد اندفاعا للانطلاق والتطور والتحرر من أن يتخلف عن قافلته... ".
إذن هل ينتمي شعر عبد المطلب إلى تيار الجديد؟ لا، لكنه ليس غريبا أو بعيدا أو قاصرا عنه. كان قادرا على مواكبة الحركة الشعرية وقد عايش انطلاقتها بين الحربين وبشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية، لكن نتاجه الشعري لم يكن بشكل عام، مواكبا لها.
هذا عن عبد المطلب الشاعر. أما عبد المطلب السياسي فقد يكون الحكم عليه مقاربا وقد يكون النموذج الذي تكون عليه شاعرا هو نفسه الذي تكون عليه سياسيا... لذلك نسارع إلى القول أنه عمل في السياسة هاويا، أيضا، وليس محترفا، لكنه هاو بامكانات محترف، هاو يجيد بامتياز حرفة السياسة التي منع عن احترافها في السلطة بينما امتنع عنها في المعارضة الحزبية.
أما عمله كدبلوماسي فلم يدم طويلا رغم نجاحه الباهر حسب زهير مارديني أحد أصدقائه وهو يروي عن لسان سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا ووزير خارجيتها آنذاك وإذا كان عبد المطلب أحد مؤسسي وزارة الخارجية السورية فهل إلى جانب ذلك أول سفير أو قائم بالأعمال السوري لدى الاتحاد السوفياتي وقد كان ذلك في الأربعينات أي في السنوات العصيبة التي مرت بالعالم العربي، أبان معارك الاستقلال وفي فترة النكبة والتآمر الامبريالي على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ويحكى عنه نافذ البصيرة ثاقب الرؤيا حيال القضية الفلسطينية لكنه كان يقترح في واد والعرب الخونة يقررون في واد آخر فاعتبرهم عبد المطلب من أفضل الذين يتقنون غموض المواقف واستعداء الآخرين، ومن أفضل الذين " يكبرون الكلام ". على أن عمله في الحقل الدبلوماسي لم يدم طويلا فما لبث بعد عودته إلى سوريا أن استقال من