وإعمالا لملكة البيان التي أودعها الله في الانسان ولو مع الغفلة عن وجه مناسبة اللفظ للمعنى والجهة الموجبة لاختياره في أدائها، بل ولو مع عدم تحديد طبيعة استعمال اللفظ في المعنى جريا من الانسان على مقتضى غريزته بصورة بدائية، من دون تحديد تفصيلي للفظ ولا للمعنى، نظير تعابير الطفل في أول نطقه، ثم يتكامل بمرور الزمن ويتكامل الانسان ويدخله التطوير والتحسين بعد التنبه لفائدته وتحسسها.
لكن ذلك وإن كان قريبا لمقتضى طبع الانسان في التدرج، إلا أنه يحتاج لمدة طويلة، وهو لا يناسب ما تضمنته الآيات والأخبار المستفيضة من كلام آدم أبي البشر في مبدأ الخلقة مع الله تعالى، ومع الملائكة والشيطان، وكلامهم معه، حيث يظهر منه التوجه في أول الامر للبيان بصورة منظمة ووجود لغة كافية في أداء المقاصد وعملية التفاهم.
ومن هنا كان من القريب جدا أن الله تعالى قد ساعد الانسان في مبدأ الخلقة فألهمه فعلية البيان كما أودع فيه ملكته، وهداه لمجموعة من الألفاظ تفي بأغراضه فتكلم بها بطبعه، من دون أن تكون مسبوقة بالوضع، وجرى عليها حتى تكونت اللغة الأولى، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التطوير والتغيير والتبديل تبعا لتجدد الحاجة وتشعبها، كما هو الحال في سائر شؤون حياته.
وربما تشعبت اللغات منها، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى دفعي إعجازي، كحدوث اللغة الأولى، كما قد يظهر من بعض الاخبار.
ولعل هذا مراد من يقول إن الواضع هو الله تعالى. وربما يكون مرادهم أمرا آخر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه ولا في بقية المباني المذكورة في مبدأ الوضع بعد عدم ظهور الثمرة لذلك.