فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.
ومن هذا القبيل: التنافي بين ما دل على أن الواجب على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماما، وما دل على أن الواجب عليه الصلاة قصرا، حيث لا تنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة، ولا مانع من الجمع بينهما في نفسه، والتنافي بينهما إنما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما في الواقع، وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ست صلوات في يوم واحد، ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.
وقد تحصل من ذلك: أن النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين بشتى أشكاله - أي سواء كان بالذات والحقيقة، أو كان بالعرض والمجاز، وسواء كان على وجه التباين أو العموم من وجه - هي أن ثبوت مدلول كل منهما في مقام الجعل يقتضي رفع اليد عن مدلول الآخر، وموجب لانتفائه في ذلك المقام مع بقاء موضوعه بحاله، لا بانتفائه. ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض إلى التناقض حقيقة وواقعا، بمعنى أن ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر إما بالمطابقة، وإما بالالتزام.
وعلى الجملة: فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرة من أن كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو القضية الحقيقية. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنك قد عرفت في غير موضع أن نسبة الحكم إلى الموضوع في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلة التامة في عالم التكوين، فكما يستحيل انفكاك المعلول عن علته التامة فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أنه إذا كان هناك دليل آخر يدل على نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه فلا محالة يقع التعارض والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الإثبات والدلالة، فإن دليله يقتضي ثبوته لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج، وذاك يقتضي نفيه عن ذلك الموضوع