نعم، لو كان هناك دليل دل على انتفائه مع ثبوت موضوعه لكان منافيا له وموجبا لرفع اليد عما دل عليه، إذ هذا مقتض لثبوته، وذاك مقتض لعدمه فلا يمكن أن يجتمعا في موضوع واحد، ولكنهما عندئذ صارا من المتعارضين فلا يكونان من المتزاحمين، ومحل كلامنا فعلا في الثاني، لا في الأول.
وصفوة القول في ذلك: هي أنا قد ذكرنا غير مرة أنه لا مضادة ولا منافاة بين الأحكام بأنفسها، لأنها أمور اعتبارية فلا شأن لها، ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ولا واقع موضوعي لها غير ذلك. ومن المعلوم أنه لا تعقل المضادة والمنافاة بين الأمور الاعتبارية بعضها ببعض ذاتا وحقيقة. ومن هنا قلنا:
إن التنافي والتضاد بين الأحكام إما أن يكون من ناحية مبدئها، وإما أن يكون من ناحية منتهاها، ولا ثالث لهما.
أما التنافي من ناحية المبدأ فيبتنى على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها، وحيث إن المصلحة والمفسدة متضادتان فلا يمكن اجتماعهما في شئ واحد.
وأما التنافي من ناحية المنتهى فلعدم تمكن المكلف من امتثال الوجوب والحرمة معا - مثلا - في شئ واحد. وكذا عدم تمكنه من امتثال وجوبين أو تحريمين متعلقين بالضدين اللذين لا ثالث لهما. وهكذا...، ولا يفرق في هذه الناحية بين مذهب العدلية وغيره.
وعلى هذا الأساس فإذا كان بين حكمين تناف من ناحية المبدأ أو المنتهى بالذات - كالوجوب والحرمة لشئ واحد - أو بالعرض - كما إذا علم إجمالا بكذب أحدهما - فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما.
وأما إذا لم يكن بينهما تناف لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى - كوجوب صلاة الفريضة ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلا - فلا مانع من جعل كليهما معا أصلا، بداهة أنه لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر وجعل وجوب إزالة النجاسة عن المسجد. غاية الأمر أنه قد يتفق لبعض أفراد المكلفين