عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيرا بالسنة المطهرة، مميزا بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل، ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة، فإنه أولا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمرا آخر، هو عدم وجود حرج: أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله (ويسلموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا.
ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليما) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال كان برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله (ألم تر إلى الذين يزعمون) الآية وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراج من الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري سرح الماء يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري. استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر، فردهما فقتل عمر الذي قال ردنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دم المقتول وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقا، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.